وقفة امام الحقيقة
لم تصدر بعد النتائج النهائية للجولة الأولى للانتخابات النيابية في مصر، ولكن العناوين لا تترك مجالا كبيرا للشك: الكتل الاسلامية اكتسحت الساحة الانتخابية وستسيطر على مجلس الشعب الجديد الذي يفترض ان يصوغ الدستور. لم تكن المفاجأة في تقدم الاسلاميين على سائر الكتل، فهذا كان متوقعا، ولكن الصادم كان النسبة الهائلة من التأييد التي تقدر باكثر من 50% حتى الآن، ويتوقع ان تتراوح بين 60%-70% من اصوات المصريين. ولا يثير الاستغراب غضب ونقمة شباب التحرير على هذه النتائج، علما انهم كانوا صناع الثورة بينما حصدت القوى المضادة للثورة ثمارها.
كان واضحا من الايام الاولى للثورة ان الاخوان سيقطفون الثمار السياسية، علما انهم القوة السياسية الحزبية الاكثر تنظيما وتمويلا. هذا الاستنتاج البديهي ثبت في تونس ثم في المغرب والآن في مصر. مصر ليست حالة فريدة من نوعها، فالحركة الاسلامية هي حركة الشارع العربي في كل مكان والأسباب معروفة، نظرا لتراجع الاحزاب اليسارية وتحولها الى "احزاب كرتونية"، هذا في حين تبنت الحركات الاسلامية راية العداء للغرب، امريكا واسرائيل، تارة بدعم الانظمة الحاكمة وتارة رغم انفها. في ظل هذه المعطيات ولاول وهلة، كان من الممكن اعتبار الثورة نوعا من "المغامرة"، لأنها اسقطت النظام الاستبدادي لاستبداله بنظام ديموقراطي، معروف انه سيقود الى سيطرة الاخوان على البرلمان بسبب شعبيتهم.
ولكن الثورة في مصر لم تكن مغامرة ولا مبادرات فردية، بل تعبيرا عن نقطة تحول تاريخية. عند هذه النقطة وصلت الانظمة العربية الاستبدادية الى نهاية المطاف، وكان يكفي تفاعل القوى الشبابية وأخذها زمام المبادرة لتجر وراءها شعبا كاملا للاطاحة بنظام فقد كل مصداقيته. ولكن كما هو الحال في ثورات اخرى في العالم، لا يعني وجود اجماع على إسقاط النظام بان هناك اجماعا على النظام الذي يجب ان يليه.
النماذج على ما تقدم عديدة، ومنها الثورة الامريكية انتهت بحرب اهلية دامية بين الشمال الرأسمالي والجنوب الاقطاعي حول موضوع العبودية، والثورة الروسية انتهت بحرب اهلية بين السوفييت وأنصار الثورة المضادة. لقد خسر لينين الانتخابات للجمعية التأسيسية، وكانت هذه اول انتخابات حرة نزيهة بعد سقوط النظام القيصري. حينها ايضا، كما هو الحال في مصر وتونس اليوم، نكر الفلاحون "المعروف"، لم يصوتوا للبلاشفة الذين قادوا الثورة، بل للحزب الذي ضمن مصالحهم ووعد بمصادرة الارض من الاقطاعيين وتوزيعها عليهم.
من هنا، فالهزيمة الانتخابية التي مني بها الثوار في مصر لا تشكل سابقة تاريخية. ومع ذلك، وكما أسلفنا، كان لا بد من الثورة لانها ليست نتاج اجتهاد ذاتي بل نتيجة لظروف موضوعية تعبر عن تيارات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة، ولا يمكن لأي نظام او قوة عظمى ان تقف امامها، وهو ما يؤكده موقف الادارة الامريكية التي اضطرت للتخلي عن مبارك، حليفها العربي الاهم في المنطقة.
ان كون الثوار في كل من مصر وتونس اقلية، لا ينفي حقيقة كونهم من سار بتناغم مع سيرة التاريخ، واستطاعوا ان يقودوا الجماهير وبنجاح نحو مسيرة الحرية والديمقراطية. بيد ان هذه الحقيقة لا تكفي لكسب الدعم الشعبي وبناء المجتمع العصري الجديد. ان حقيقة انتماء قيادة الشباب للطبقة الوسطى وبعدهم عن الطبقة العاملة والفلاحين والفقراء في مصر، شكّلت نقطة ضعف كبيرة. واكثر من ذلك، ان عدم طرحهم برنامج سياسي من ناحية وتجنبهم العمل السياسي وبناء حزب ثوري ترك الساحة شبه خالية للاخوان لحصد الدعم الشعبي بلا منافس حقيقي. الاسلوب الذي تصرف حسبه الشباب منذ تنحي مبارك عن الحكم لعب لصالح المجلس العسكري والإخوان المسلمين، وكشف خوفهم من الانتخابات عن عدم نضج وعدم فهم لحقيقة ان الثورة ليست ضربة قاضية بل عملية تثقيفية طويلة الامد باتجاه بناء وعي ثوري جديد بعيد عن السلفية والأصولية الدينية.
ان الطريق الوحيد لتطهير مصر من الاصولية الدينية تكون بالمرور عبر التجربة الحالية، والاعتراف باللعبة الديمقراطية والتسليم بنتائجها. ولكن من جهة اخرى، سيكون على الشعب المصري ان يختبر من وعده بان "الاسلام هو الحل"، وإفساح المجال ليرى الجميع إن كان قادرا او راغبا حقا في بناء اقتصاد سليم، مجتمع حر ومتقدم وعدالة اجتماعية لمصر وابنائها. من هنا يدرك الاخوان المسلمون انهم امام اختبار كبير جدا، وسيكون عليهم ان يعترفوا بان هذه النتائج هي وليدة ثورة ديمقراطية، حديثة ومدنية قام بها الشباب المتنورين بدعم من الشعب المصري كله، ولم تكن ثورة دينية.
ويبدو ان الاسلاميين ليسوا بعيدين عن ادراك هذا الامر، وهو ما تشير اليه التجربة الانتخابية في تونس. حيث جاءت التصريحات الاولية لحزب النهضة الاسلامي لتطمئن الرأي العام بان الحزب لن يحتكر الحكم بل سيشرك الاحزاب الليبرالية في هذه المرحلة الدقيقة من تأسيس الدولة الجديدة، وذلك في محاولة لمنع المواجهة المباشرة مع الغرب من ناحية ومع المعارضة المدنية الداخلية التي تتمتع بنفوذ معنوي وسياسي كبير بسبب دورها الثوري الطليعي.
ان احد مطالب ثوار "التحرير" من المجلس العسكري كان سن قانون العزل الذي يمنع من فلول النظام السابق خوض المعركة الانتخابية. وقد أثبتت نتائج الانتخابات التي سحقت رموز الحزب الحاكم البائد، بان الشعب المصري واعٍ لمصالحه وان عدم ثقة الشباب الثوار بالشعب كان في غير محله. ان الاقبال على الاقتراع وهزيمة رموز نظام مبارك، يدلان على ان من صوّت للاخوان والأحزاب الاصولية يرغب بالتغيير، ويتمسك بحقه الديمقراطي ويبعث برسالة قوية جدا لكل الاحزاب بان المطلوب منها هي الافعال وليس الاقوال. ان التصويت للاخوان كان تصويتا للحزب الذي انغمس منذ سنين بين الجماهير ودعا للتغيير وعليه اليوم ان يفي بوعوده، وسيكون عليهم اخذ هذا بالحسبان عندما يصيغون الدستور.
الى جانب الاخوان ستدخل البرلمان لأول مرة أحزاب جديدة منها ليبرالية ومنها يسارية وهو بحد ذاته حدث تاريخي، فالبرلمان هو منبر مهم جدا لطرح مطالب العمال والفلاحين من جهة ومراقبة الممارسات السياسية للاخوان المسلمين وحلفائهم. سيكون على الثوار داخل وخارج البرلمان ان يكونوا حراس الحريات الديمقراطية والدفاع عن حق التظاهر والاحتجاج، عن حق التنظيم السياسي والنقابي، عن حرية الصحافة وان يكونوا العين اليقظة التي تكشف وتراقب ممارسات السلطة. وهكذا، فان كافة المطالب والمزيد التي جرى توجيهها للمجلس العسكري الانتقالي ستوجه هذه المرة للعنوان الصحيح، وهو الحكومة المنتخبة التي سيتم اختبار إخلاصها للثورة في كيفية تعاملها مع ملفات الفساد، ومحاكمة رموز النظام البائد والشرطة. وسيكون الامتحان الحقيقي للثورة ليس في هذه الانتخابات بل في الانتخابات القادمة، اذا التزمت القوى السياسية والجيش بروح الثورة وطموح الشعب للديمقراطية.
انها فرصة ثمينة لليسار المصري للخروج من ميدان التحرير والانتشار الى كل ميادين مصر السياسية والشعبية المختلفة وبالذات العمالية والنقابية، وسيكون دمج العمال في حزب يراعي مصالحهم من اهم المهمات الملقاة على اليسار. فمقابل "الاسلام هو الحل" الغيبي الذي يطرحه الاخوان والذي يغلّف سياسة اقتصادية نيوليبرالية قائمة على الاستغلال، سيكون على الثوار اليساريين رفع شعار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية كهدف والاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي عملي وقابل للتطبيق.
لقد دخلت مصر وتونس التاريخ، وهي تجربة ثورية ستتكرر في العالم كله من نيويورك الى باريس الى مدريد، وهو ما لا يفهمه الاخوان المسلمون، ولكنها حقيقة يفهمها الماركسيون. اننا امام ازمة اقتصادية كونية تهدد بانهيار النظام الرأسمالي برمّته، ذلك النظام الذي ينتمي اليه ايضا الاخوان المسلمون رغم اختلاف عقيدتهم الدينية. الركود العميق الذي بدأ في الولايات المتحدة يهدد اليوم بتفكك الاتحاد الاوروبي، وروح الثورة التي خرجت من القاهرة تحوم اليوم في سماء العالم كله، وليس بوسع نتائج الانتخابات الحالية في مصر، ان توقف مسيرة التاريخ نحو الثورة والتغيير.
اضف تعليقًا
ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.