الذاكرة والجرح المفتوح - زيارة إلى مرسم ختام يونس في عارة
خلاصة أعمال ختام هي الذاكرة التي تمتدّ من الخاصّ- أشواقها لأخيها اللاجئ- إلى العامّ- الأرض المفقودة والثقافة المنقرضة والتاريخ المندثر. التناقض في أعمالها قوي بين حرية خلق عالم جديد وبين سيطرة رموز الجفاف والقحط حتى أنها في نهاية المطاف تخلق عالمًا مهدّمًا. تعكس أعمال ختام يونس الإحساس "باليوم التالي"- الطرد والتفكّك والهجرة والموت والألم والفقدان والثكل، مما يضطرّ الناظر للسير بطريق ملتوية في محاولة لاقتفاء الأثر والعثور على الرموز التي تساعده في التمسّك بالأمل وشفاء الجرح المفتوح.
قرية عارة، تشرين الثاني 2010- طريق مليئة بالمنعطفات والطلعات والنزلات، تؤدّي إلى مسكن الفنّانة ختام يونس. بجوار بيت العائلة والمرسم، نخلة تطلّ على وادي عارة وقرية عرعرة في الجهة المقابلة من الشارع. مدخل القرية في طور التطوير؛ بناء أرصفة وترميم الشوارع، بخلاف الشوارع الضيّقة والبدائية داخل القرية، حالها حال سائر القرى في المنطقة التي تبدو وكأنّ الزمن توقّف فيها قبل سنين.
هذه هي المرّة الرابعة التي تتبرّع فيها ختام، من مواليد عام 1962، بعمل فني لمعرض "خبز وورود الذي تبادر إليه نقابة "معًا". هدف المعرض المساهمة في تمويل مشروع توفير أماكن عمل للنساء العربيات في الزراعة. كالكثير من الفنّانين اليهود والعرب الذين يشاركون في المعرض، ستتلقّى ختام 25% فقط من قيمة عملها الفني وسترصد ال75% الباقية لصالح المشروع النقابي. تبرّع فنّانة كختام للمعرض وللمجتمع مرّة تلو الأخرى ليس أمرًا مفهومًا ضمنًا. تقول ختام حين التقينا بها في بيتها: "لا أتلقى أي دعم يساعدني في التفرغ لفنّي، لكنّني أدرك سياق وأهمّية المعرض، الذي يدعم المصلحة العامّة. أنا أيضًا بحاجة للدعم، لكنّ الوضع الاقتصادي الذي تعاني منه الكثير من النساء اللواتي لا يعملن هو أشدّ وأصعب، وهنّ بحاجة لمصدر رزق.
"من المؤسف أنّ الكثير من الناس لا يهتمّون بالفنّ، لأنّ شغلهم الشاغل البحث عن لقمة العيش. لا يحوز الفنّانون أيضًا على التقدير في مجتمعنا العربي بالمقارنة مع المجتمع اليهودي. أنّني أعي أنّ الوضع الاقتصادي الأفضل للمجتمع اليهودي يتيح له دعم وتقدير الثقافة والفنّ".
تحدّثنا ختام عن محاولة شاركت فيها قبل سنة لإقامة صالة عرض جديدة في عرعرة "يد للجميع" بالتعاون مع الفنّان فؤاد إغبارية. للأسف تواجه الصالة صعوبات مالية لعدم تلقيها ميزانية او دعما ماديا من أية جهة. "هذا وضع الوسط العربي بأكمله، ولا يقتصر على عرعرة"، تُجمِل ختام أقوالها.
بدأت ختام دراستها للفنّ في كلّية "كي" في بئر السبع سنة 1997، حيث عملت كمعلّمة للّغة العربية في المدارس الابتدائية في رهط. "كان لديّ ميل دائم للرسم، وقرّرت تنمية هذه الموهبة". في السنوات 1999-2003، بعد عودتها إلى قريتها، تابعت الدراسة في كلّية الفنون في عرعرة، بتوجيه من الفنّان فريد أبو شقرة. كحال سائر الفنّانين الذين أنهوا دراستهم في مختلف المؤسّسات في البلاد، تجد ختام أيضًا صعوبة في إيجاد عمل في هذا المجال، لذلك فهي تعمل معلّمة للّغة العربية في معهد عارة للّغات والعلوم، وتعلّم الفنّ في إطار دورات مختلفة.
تسكن ختام في بيت والديها وترسم في المرسم المجاور للبيت. والداها يدعمانها في اختيارها العمل في الفنّ ويحبّان أعمالها، "يهمني رأيهما في أعمالي، ولكنّني دائمًا أقرّر بنفسي"، تقول ختام. شاركت ختام في معارض جماعية عديدة، منها "تكاتب" معرض للفنّانين العرب في متحف الإسلام بالقدس، معرض في أمّ الفحم، المعرض البلدي في طمرة، بيت الكرمة وغيرها. في شهر حزيران 2010 اختتم معرضها الفردي الأوّل بعنوان "اليوم التالي"، الذي كان قَيِّمُهُ الفنّان فريد أبو شقرة، والذي كتب مقالاً في كتالوج المعرض. عُرض أربعين عملا من أعمالها الفنّية في السنوات الأخيرة في مركز محمود درويش الثقافي بالناصرة، وقد شكّل هذا المعرض أوج أعمالها، من ناحية النطاق الواسع للمعرض وكذلك من ناحية ردود الفعل المؤيّدة.
تقنية مميزة - الأرض
ختام لا ترسم على القماش أو الورق بريشة مغموسة في الألوان الزيتية أو في الماء. تقنيتها مميّزة وتعتمد على موادّ طبيعية كالتراب والرمل والطحين والعفن ومساحيق الألوان والقهوة والككاو وغير ذلك، التي تركّبها على لوح خشبي موضوع على الأرض. تحدّثنا ختام: "عملية الإبداع طويلة وتستغرق أحيانًا أشهر. كلّ مرحلة تستغرق وقتًا ويجب الانتظار حتّى تجفّ الموادّ، وفي بعض الأحيان يجب إضافة طبقات أخرى. أواصل العمل حتّى أشعر أنّ العمل اكتمل". يسألني الكثيرون - كيف قمت بالعمل، هل استعملت ترابًا حقيقيًا أم كوّنته من جديد؟".
في أوّل عمل استعملت فيه تقنية التراب والتوابل، ابتدعت بيئة حيّة، رسمت عليها عصافير مهاجرة. شارك هذا العمل في معرض "خبز وورود" سنة 2007. من هنا بدأت ختام في تنمية أسلوبها المميّز، بطريقة التجربة والخطأ، تبحث عن طرق لتقليد الشقوق في الأرض.
تنقسم أعمال ختام بين صور مجرّدة للمناظر الطبيعية موضوعها التراب المشقّق والمفتّت؛ وأعمال موضوعها مناظر طبيعية أوّلية تشبه الجبل البركاني الثائر والحمم المنصهرة. تبلغ أبعاد الأعمال من مساحة بلاطة وحتّى متر مربّع تقريبًا. يمكن في قسم من الأعمال ملاحظة أعشاب تطلّ من تحت قشور ترابية. تتميّز معظم أعمالها بطابع بروزي وتضاريسي، وكأنّها صورة التقطها قمر صناعي للكرة الأرضية في طور تكوّنها.
مشاهدة أعمال ختام تضعك أمام تحدٍّ لمحاولة فهم مغزاها. يشعر الناظر إلى العمل بحرّ وجفاف الصحراء لدرجة قد تؤدّي به إلى إغلاق عينيه كي لا تدخل حبيبات الرمل إليهما. محاولة سبر أغوار العمل الفني قد تشعرك بالحرقة تتغلغل إلى عينيك ووعيك. من جهة أخرى، التضاريس المتغيّرة تضطرّ الناظر إلى إمعان النظر في العمل عن قرب وعن بعد بشكل دوري.
"الناظرون يتضامنون ويفهمون، يستوعبون الواقع والتراب والطبيعة وتبدّل الفصول والذكريات... هذا الأمر يستفزّ شوقهم لقطعة الطبيعة التي عاشوها"، تقول ختام وتضيف: "يرتبط ذلك لدى بعض الأفراد بالأرض التي اضطرّوا هم أو أهلهم إلى تركها. لا أتحدّث عن النكبة، فهي قصّة من هموم العالم أجمع، أنّني أروي قصّتي الشخصية وأتحدّث عن أشواقي لأخي حمزة يونس الذي يعيش في سورية والذي رأيته آخر مرّة في الأردن قبل 11 سنة. هناك الكثيرون مثلي ممّن لديهم أقرباء لا يمكنهم العودة إلى البلاد لأسباب أمنية أو لأسباب أخرى، لذا أعمالي تعبّر عن واقع يعيشه الكثيرون".
قصّة ختام الشخصية تنكشف في أعمالها كجرح لا شفاء له، تقول: "منذ سنين نطالب بأن يسمحوا له بالعودة، لكنّ طلبنا يُرفض على الدوام. أخي اليوم في ال69 من العمر، متزوّج وله أولاد. مذ كان في الثامنة عشرة وهو يتنقّل في كلّ العالم العربي- مصر ولبنان وسورية والسعودية والأردن... أحلم برؤيته هنا في بيت العائلة".
نهاية القصّة أم بدايتها؟
خلاصة أعمال ختام هي الذاكرة التي تمتدّ من الخاصّ- أشواقها لأخيها اللاجئ- إلى العامّ- الأرض المفقودة والثقافة المنقرضة والتاريخ المندثر. من خلال نسخها لقطعة الأرض وتعليقها على الحائط، تحقّق ختام أثر التضامن والمشاركة. التراب، المكوِّن الأساسي الذي يمثّل الاستقرار، يغيّر اتّجاهه ويصعد نحو الحائط. يبدو أنّ نقطة أصل كلّ إنسان، الأرض التي يقف عليها، ليست أمرًا مفهومًا ضمنًا. "الجميع يتنازعون ويتجادلون حول الأرض؛ أساس حياتنا هنا، لكنّها حياة محدودة". لذلك حتّى الأعشاب التي في أعمال ختام جافّة. تقول ختام: "رغم حبّي للّون الأخضر الذي أحاول استعماله في أعمالي، إلاّ أنّ اللون الغامق والجفاف، يسيطران على نحو غامض على العمل في نهاية الأمر".
يظهر هذا التناقض الداخلي في كثير من أعمال ختام. من جهة حرّية خلق العالم من جديد، ومن جهة أخرى تعابير تشبيهية للجفاف والقحل والدمار والخراب. عمليًا، تخلق ختام عالمًا مهدّمًا. تعكس أعمالها الإحساس "باليوم التالي"- الطرد والتفكّك والهجرة والموت والألم والفقدان والثكل. يضطرّ الناظر للسير بطريق ملتوية في محاولة لاقتفاء الأثر والعثور على الرموز التي تساعده في التمسّك بالأمل وشفاء الجرح المفتوح.
اضف تعليقًا
ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.