تاريخ النشر ٢٤/٠٦/٢٠١٠

شؤون اسرائيلية

إسرائيل تسعى للخروج من الحصار

يعقوب بن افرات

السيطرة الاسرائيلية على اسطول الحرية الى غزة قلبت الوضع السياسي في المنطقة. اسرائيل وجدت نفسها تحت حصار دولي ودبلوماسي غير مسبوق. لحظات معدودة حوّلت حدثا محليا عديم أية اهمية عسكرية او سياسية، الى ازمة ذات إسقاطات إستراتيجية. تركيا، الحليفة الاستراتيجية الموالية لاسرائيل منذ 60 عاما، وربيبة الغرب، انقلبت على نفسها وتحولت من صديق حميم الى غريم، واصبحت المتحدثة باسم المعسكر الراديكالي العربي، وانتقلت لدعم حماس وتأييد شرعية حكمها في غزة.

ليس للتغيير في السياسة التركية اية صلة بسياسة اسرائيل تجاه الفلسطينيين. فالاحتلال وانتهاك حقوق الانسان الفلسطيني متواصلان منذ اكثر من اربعة عقود، ولم يمنعا تركيا من الحفاظ على علاقات حميمة مع اسرائيل. السبب الاساسي للتغيير في السياسة التركية نابع من فشل الجهود التركية في الانضمام للاتحاد الاوروبي. اوروبا كما يبدو لا تحب المسلمين، وتفضل الحفاظ على طابعها المسيحي. هذا هو السبب الذي جعل تركيا تكتشف من جديد سحر الشرق والمنفعة الاقتصادية التي يمكن ان تجنيها من سياسة "حسن الجوار" مع الدول العربية المحيطة.

تحولت تركيا الى لاعب مركزي في المنطقة، ولكن اسرائيل تواصل التعامل معها كما لو كانت لاعبا تعزيزيا دوره تقويتها ودعم المعسكر "المعتدل" في مواجهة المعسكر الراديكالي الذي تقوده ايران. انه بالفعل فشل استخباراتي من جانب اسرائيل، يستأهل بحد ذاته لجنة تحقيق.

ولكن، بغض النظر عن الدوافع التي سببت تغيير السياسة التركية، فالغرب لديه كل الاسباب لاتهام اسرائيل بالمسؤولية عن تعجيل الاحداث ودفع اردوغان لمواقف متطرفة. فقد مل العالم من الصور الفظيعة للحواجز والجدار الفاصل والحصار على غزة. هذا الوضع يعيد الى الاذهان انظمة استبدادية ولّى زمانها وانتهى، مثل نظام الابارتهايد في جنوب افريقيا. العالم لم يعد يصدق اسرائيل، بل بات يؤمن ان اسرائيل هي ضحية مواقفها الرفضوية. عدم اتخاذ اسرائيل خطوات جادة باتجاه الحل السلمي، يسقط كافة ذرائعها الأمنية.

اسرائيل نفسها تعتقد ان المسؤول الاساسي عن هذا الوضع هو الرئيس اوباما. منذ خطابه في القاهرة في حزيران 2009، دخلت اسرائيل الى حالة تأهب. فقد استلم اوباما الحكم وباشر باتخاذ خطوات لاخراج امريكا من الورطة الاقتصادية والسياسية-العسكرية في افغانستان والعراق، بعد ثماني سنوات من حكم جورج بوش. وادرك اوباما ضرورة تغيير السياسة المعادية للعرب، ومطالبة اسرائيل بالمساهمة في المهمة.

لا بد من الملاحظة بان تراجع مكانة امريكا في الشرق الاوسط أدى بالمقابل الى علو نجم ايران والمعسكر الراديكالي في المنطقة، على حساب الانظمة العربية الموالية لامريكا. وتحول النزاع الاسرائيلي-الفلسطيني الى موضوع اساسي في الشارع العربي، تستغله كل العناصر الراديكالية لمصالحها السياسية الخاصة. قناة الجزيرة تلعب دورا رئيسيا في هذا المجال، وتقود رأيا عاما عربيا ضد الولايات المتحدة واسرائيل، وتحول الاحتلال الاسرائيلي للمناطق الفلسطيني الى امتحان اساسي للسياسة الامريكية في المنطقة.

ما يزيد الطين بلة بالنسبة لاوباما هو الائتلاف اليميني في اسرائيل الذي يشارك فيه حزب العمل، والذي يعتقد بعدم وجود شريك فلسطيني للتفاوض. الزعيمان الاساسيان اللذان يكوّنان الائتلاف الحالي، نتانياهو وبراك، كانا رئيسي حكومة في السابق ودفعا ثمنا سياسيا بفقدان السلطة على اثر "خطوات حسن النية" التي قدماها للسلطة الفلسطينية. كانت الحالة الاولى زمن نتانياهو في اتفاق واي بلانتيشن عام 1998، والحالة الثانية مع براك في كامب ديفيد عام 2000. اليوم، نتانياهو عاد ليكون رئيس حكومة، وبراك اصبح وزير الدفاع، وكلاهما مدفوعان بالاعتقاد العميق ان الطرف الفلسطيني ليس طرفا للتفاوض وكل محاولة للعودة للمحادثات بهدف الوصول لاتفاق مع الفلسطينيين ستؤدي تلقائيا لسقوط الحكومة.

من هنا، باءت بالفشل كل المساعي الامريكية لإحداث تغيير في الموقف الاسرائيلي. وكانت النتيجة دخول العلاقات بين الولايات المتحدة واسرائيل الى ازمة غير مسبوقة، تنفجر كل مرة من جديد، سواء في الاستقبال البارد لنتانياهو في البيت الابيض، واخيرا تأجيل مقابلته بعد ازمة الاسطول، وعدم دعم اسرائيل في مواجهة التنديد العالمي الحاد الذي تعرضت له من المجتمع الدولي.

حتى الآن، اقتصرت سياسة نتانياهو على التزام الموقف الانتظاري. نتانياهو يدرك ان اوباما يواجه صعوبات جمة: فقواته متورطة في صحارى افغانستان وفي العراق، الوضع الاقتصادي لا يتحسن، حتى الكارثة البيئية الاخيرة مقابل شواطئ فلوريدا زادت في تراجع شعبية الرئيس الامريكي. امكانية خسارة الديمقراطيين الاغلبية في مجلسي النواب والشيوخ في انتخابات نصف الولاية في نوفمبر المقبل، شجعت نتانياهو على الاستمرار في موقفه. بالنسبة لنتانياهو كلما ضعف اوباما كلما ازدادت قوة الحكومة الاسرائيلية. ولكن جاءت قضية الاسطول التركي لتوضح لاسرائيل ان هزيمة اوباما لا تعني بالضرورة انتصار نتانياهو. فلو كان اوباما واقفا وراء حكومة نتانياهو مئة بالمئة، لاضطر اردوغان للتفكير اكثر من مرة قبل الخروج علنا لدعم الاسطول.

جاء الواقع ليذكر نتانياهو بالدرس الاول الالزامي لكل رئيس حكومة في اسرائيل، وهو ضرورة التنسيق الكامل مع الولايات المتحدة. الهجوم الدولي على اسرائيل في اعقاب احداث الاسطول خدم اوباما الذي استغل الحدث بمهارة لتلقين نتانياهو الدرس. وكانت النتيجة اولا تم تأجيل اللقاء مع نتانياهو الذي كان هدفه تلطيف الاجواء بين الزعيمين. ثانيا، اعطى اوباما ضوءا اخضر للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق بمشاركة مشرفين أجانب، كما دعم المطلب الاوروبي بنزع الحصار عن غزة. رسالة امريكا لاسرائيل واضحة: يجب ان تقوم لجنة تحقيق، ويجب ان تقود التسهيلات في الحصار الى تغيير في تركيبة الائتلاف الحكومي. على نتانياهو ان يدفع الثمن السياسي، ووقته آخذ بالنفاذ، ولن تجديه نفعا نتائج الانتخابات للكونغرس الامريكي.

وما يشير الى ان اسرائيل بدأت باستيعاب الدرس هو عنوان صحيفة "هآرتس" من تاريخ 16 حزيران: "براك يضغط على نتانياهو: خطة سياسية جريئة وحدها ستخرج اسرائيل من العزلة". ويأتي المقال متزامنا مع موافقة اسرائيلية-اوروبية على ادخال تسهيلات في الحصار على غزة.

براك من جانبه بدأ يدفع ثمنا سياسيا داخل حزبه. اعضاء حزبه يمنحونه عدة اشهر للاتفاق مع نتانياهو على طبيعة التغيير المطلوب في الائتلاف. ولكن من جهة اخرى، يدرك الكل في اسرائيل ان "الخطط الجريئة" التي يقترحها براك هي مدعاة للقلق. فكل خططه "الجريئة" حتى الآن قادت الى كوارث كبيرة. فقد انسحب من جنوب لبنان وقاد لحرب لبنان الثانية، ثم جاء بخطة كامب ديفيد وادى للانتفاضة الثانية، ثم خرج لحرب غزة وجلب على اسرائيل تقرير جولدستون، ثم دخل اخيرا الائتلاف اليميني مع نتانياهو لانقاذه من التحالف مع حزب كديما، وادخل اسرائيل الى عزلة دولية. والآن يعتزم الإتيان بخطة جريئة جديدة لتخليص اسرائيل من الورطة التي ما كان عليها دخولها اصلا.

واضح ان اسرائيل استوعبت العبر من قضية الاسطول، وادركت ان عليها تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة، والوصول الى تنسيق كامل، ثم يكون بامكانها مواصلة الاستهتار بكل العالم. قد نرى تغييرا في التركيبة الائتلافية في اسرائيل وقد نرى بداية محادثات مباشرة مع السلطة الفلسطينية. عمليا، الحصار الاسرائيلي فشل في اسقاط حكومة حماس في غزة، ولكنه فعل العكس اذ ادخل اسرائيل نفسها الى حصار.

ولكن مع هذا، الهدف لم يتغير. حماس في نظر الاسرائيليين هي كيان معاد يجب القضاء عليه. في هذا الموقف اسرائيل ليست وحدها، بل يدعمها اجماع واسع جدا يشمل اوروبا، امريكا، مصر والسلطة الفلسطينية، جميع هؤلاء موحدون وراء الموقف الذي يرفض أي علاقة مع حماس طالما ترفض الاعتراف باتفاقات اوسلو. ومن يدري، قد يعود اردوغان للحضن الحميم اذا حدث تغيير حكومي في اسرائيل.

غير ان التغيير الحكومي في اسرائيل لا يمكن ان يحل لاوباما مشاكله كما يتصور. انضمام تسيبي ليفني للحكومة لن يخرج قواته من افغانستان والعراق، ولن يضمن تقوية ابو مازن مقابل حماس. في نهاية المطاف، المشكلة ليست في طبيعة الائتلاف الاسرائيلي بل في اقتراحاته للحل. "الجرأة" التي يتحدث عنها براك تتلخص بموافقة اسرائيل على الانسحاب الجزئي من الضفة الغربية؛ ضم الكتل الاستيطانية لاسرائيل؛ منح السلطة الفلسطينية سيادة محدودة على المناطق التي ستنتقل لسيطرتها؛ فرض رقابة امريكية على الشرطة الفلسطينية الملزمة بالتنسيق الامني مع اسرائيل؛ سيطرة اسرائيلية مطلقة على الجو والبحر؛ تبعية اقتصادية تامة لاسرائيل. وبما ان الجدار الفاصل سيواصل الفصل بين اسرائيل و"الدولة" الفلسطينية المشوهة التي ستقوم حسب الخطة، فهذا يعني تواصل الجحيم ولكن بدعم فلسطيني.

اتفاق السلام المستقبلي سيكون كالاتفاقات السابقة، من حيث انه سيتجاوز القضايا الجوهرية ويحفظ لاسرائيل تفوقها المطلق، ولذا فسيكون معرضا للانفجار عند الازمة الاولى. هدف خطة السلام الامريكية هو كهدف لجنة التحقيق التي تم تشكيلها اخيرا برعاية امريكية، وهو ستر عورة اسرائيل. ليس للجنة اية صلاحيات فعلية، وكل هدفها إرضاء العالم. ولكن الشعب الفلسطيني مثل الشعوب في العراق وافغانستان، يتوقع من امريكا والغرب تغييرا جذريا في السياسة، وليس تواصل المؤامرات التي تهدف لتكريس الانظمة الدكتاتورية الفاسدة أمثال حميد كرزاي، اياد علاوي وابو مازن. طالما تبقى هذه الانظمة ستبقى الانظمة النقيضة لها وهي الانظمة الاسلامية المتطرفة، هذه لن تنتهي الا اذا خرجت الشعوب من حال العبودية والاحتلال الى الحرية.

ولكن للأسف، لا يزال هذا السيناريو حلما بعيد المنال.

اضف تعليقًا

ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.

الاسم

البريد الالكتروني

العنوان

موضوع التعقيب

تعليقك على الموضوع

Home نسخة للطباعة