تاريخ النشر ٢٧/٠٥/٢٠٠٩

شؤون دولية

دولتين لشعب واحد

يعقوب بن افرات

الزيارة الاولى التي قام بها رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتانياهو، الى البيت الابيض الامريكي لم تأت بمفاجآت. فالخلافات بينه وبين الرئيس الامريكي، براك اوباما، باتت معلنة وجوهرها ان اوباما يريد التغيير بينما يسعى نتانياهو لتكريس الوضع القائم: اوباما يرى في نهج الرئيس الاسبق، جورج بوش، وتحديدا سياسة السوق الحرة والحرب على العراق، سببا في الازمة العميقة التي يمر بها النظام الامريكي على المستويين الداخلي والخارجي، وهو ما يتعهد بتغييره. اما نتانياهو فيعلن التزامه بنفس السياسة الاقتصادية التي جلبت الكوارث، وحصل على موافقة حزب العمل والهستدروت على الميزانية للعامين 2009 و2010.

الخلاف بين الزعيمين ليس ايديولوجيا فحسب، بل له انعكاسات سياسية مباشرة على الوجود الامريكي في الشرق الاوسط. اوباما بحاجة ماسة للتخلص من العراق ونقل ثقل المعركة الى تنظيم القاعدة في افغانستان. لهذا يحتاج الى ايران التي ستساعده في السيطرة على العراق من جهة وفي مواجهة طالبان من جهة اخرى، ومن هنا بدأ يبحث عن الحوار الدبلوماسي مع ايران، وتغيير صورة امريكا امام العالم العربي.

ويدرك اوباما ان المفتاح لتحقيق التحول السياسي في المنطقة موجود بيد نتانياهو، لذا طلب منه القيام ببوادر حسن نية مثل تفكيك البؤر الاستيطانية "غير الشرعية" والالتزام بمبدأ "دولتين لشعبين" كأساس للحل. فالادارة الامريكية الحالية تفهم ان السياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وخصوصا الحصار على غزة، تثير غضب الشعوب العربية، وهو ما تستغله إيران جيدا لتوسيع نفوذها في المنطقة. ولذا ترى ان الوصول الى تحجيم الدور الايراني يجب ان يمر من باب حل النزاع الاسرائيلي-الفلسطيني او على الاقل تخفيف حدة التوتر بين الطرفين.

اما نتانياهو فيرى ان الحل يجب ان يكون "ايران اولا"، وان على اوباما فرض عقوبات واجراءات صارمة على ايران لاسقاط نظامها، وليس لارضائه. بالنسبة للزعيم الاسرائيلي، سيؤدي ضرب النظام في طهران الى إلحاق ضربة بحماس وحزب الله ويضعف النظام السوري ايضا. اما طالما تواصل ايران دعمها لحماس وحزب الله، حسب ادعاء نتانياهو، فلا امل في التوصل لنتيجة، والدليل هو ما يجري من انقسام في لبنان، فلسطين والعراق وفي العالم العربي عموما. ويذكّر النقاش بين الزعيمين حول مصدر المشكلة "ايران ام النزاع العربي-الاسرائيلي"، السؤال الابدي حول من اتى اولا البيضة ام الدجاجة.

ولكن اوباما يريد ان يحسم المعادلة، ليس من خلال الاقناع بل من خلال استغلال موقعه المرموق كزعيم لدولة عظمى لها مصالحها الخاصة. من هنا جاء قراره الذهاب للقاهرة لمخاطبة العرب من ارض الكنانة العريقة، وفرض موقفه على ارض الواقع. وقد بدأت تتسرب المعلومات حول "خطة اوباما" للسلام الاسرائيلي الفلسطيني المستندة على مبدأ دولتين لشعبين، وقف الاستيطان واقامة دولة فلسطينية ذات تواصل اقليمي، تنازل الفلسطينيين عن حق العودة وحسم مصير القدس في المفاوضات، كل هذا مقابل تطبيع الدول العربية مع اسرائيل. هذه هي الخطوط العامة لخطة اوباما التي تشبه خطة كلينتون ولا تتعارض مع وعد بوش لشارون من عام 2004 بضم الكتل الاستيطانية لاسرائيل، وهي لذلك لا تلبي طموحات الشعب الفلسطيني.

لا جديد في الخطة اذن، ولكن الفرق بينها وبين خطة كلينتون هو ان الظروف الموضوعية تغيرت تماما عن تلك التي سادت في عهد كلينتون حتى عام 2000. منذ ذلك الوقت تعقدت الامور الى درجة كبيرة. فبعد فشل المفاوضات بين الزعيمين الاسرائيلي ايهود براك والفلسطيني ياسر عرفات برعاية الرئيس كلينتون في كامب ديفيد، انفجرت الانتفاضة الثانية وقادت لاعادة احتلال مناطق السلطة الفلسطينية، بناء الجدار الفاصل، وبعد ست سنوات الى حرب اهلية بين فتح وحماس، فصلت بين الضفة الغربية وغزة. في نفس الفترة احتلت امريكا العراق وأطاحت بنظام صدام حسين، الامر الذي قلب موازين القوى في المنطقة لصالح ايران على حساب الدول العربية. امريكا حفرت الحفرة بيديها، واليوم تطلب من كل ضحايا سياستها ان يخلّصوها من الورطة.

نتانياهو يعرف كيف يستغل الظرف لصالحه، فهو يركّز على "الخطر الايراني" ويلقى لذلك آذانا صاغية لدى جيرانه العرب في مصر، الاردن، لبنان والسلطة الفلسطينية. نتانياهو يعرف تماما ان الوضع الفلسطيني الداخلي والانقسام العربي لن يسمحا لاوباما بتنفيذ خطته، ويوافقه معظم القادة العرب على ادعائه عدم وجود شريك فلسطيني امين يتمتع بالشرعية والدعم الشعبي اللازم للتوصل الى تفاهم مع اسرائيل.

الازمة الفلسطينية تتعقد

ان تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة في الايام الاخيرة برئاسة سلام فياض، ليس سوى دليل اضافي على الفوضى التي تسود الاراضي الفلسطينية المحتلة. فقد تشكلت الحكومة في الوقت الذي تتفاوض فيه حركتا فتح وحماس في القاهرة على تشكيل حكومة وحدة جديدة، اجراء انتخابات تشريعية وإنهاء الانقسام المدمر بين الضفة الغربية وغزة. اضافة الى ذلك، انشقت حركة فتح نفسها بعد اعلان كتلتها في المجلس التشريعي عن معارضتها لحكومة فياض الجديدة. كما اتسعت رقعة الانقسام لفصائل اخرى، ففي حين قررت الجبهة الديموقراطية و"فدا" الانضمام للحكومة، قرر حزب الشعب والجبهة الشعبية مقاطعتها.

وكانت لاوباما نفسه مساهمة في الفوضى، فهو يواصل النهج الامريكي الذي يصر على فرض سلام فياض رئيسا لاية حكومة فلسطينية. في الحوار الذي تم بين فتح وحماس في القاهرة بعد انتهاء الحرب على غزة، كان واضحا ان الطرفين معنيان بتشكيل حكومة وحدة يرأسها شخص آخر سوى سلام فياض. وردّ هذا الاخير بالاستقالة من رئاسة الحكومة في 31 آذار بادعاء "فتح المجال امام الفصائل الفلسطينية للاتفاق على حكومة توافق وطني"، ولكنه كان يدرك ان الامريكان سيرفضون نقل الاموال لإعادة بناء غزة لاية حكومة لا يرأسها هو شخصيا. امريكا تتحدث عن دولتين لشعبين، ولكنها تريد ان تفرض على الفلسطينيين من سيكون رئيس حكومتهم، وهو ما اثار حفيظة حركة فتح علما ان فياض لا ينتمي اليها.

كالمتوقع، ورضوخا للمطلب الامريكي تم تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة فياض، الامر الذي يكرّس حالة الانقسام الداخلي والفراغ السلطوي، ويثير علامات استفهام حول امكانيات تحقيق المبادرة التي يعتزم اوباما اطلاقها في القاهرة في حزيران المقبل.

من جهة اخرى، يمكن اعتبار تشكيل حكومة برئاسة فياض في هذا الوقت بالذات، نوعا من الضغط على حماس التي تواصل التلاعب الغريب بين رغبتها في الانضمام للعبة السياسية وبين اعلانها تمسكها بخيار المقاومة. فتشكيل حكومة سلام فياض في الضفة الغربية، و"التسهيلات" والخطوات العملية، مثل تفكيك البؤر الاستيطانية، التي يطلب اوباما من اسرائيل تنفيذها في الضفة، تأتي لاثارة الانطباع بان الخيار السلمي مجدٍ اكثر وان الحياة تعود الى طبيعتها، هذا في حين يتواصل الحصار التجويعي على قطاع غزة ثمنا لتبنّي خيار المقاومة، مما يمكن ان يزيد الضغط على حكومة حماس.

امريكا-اسرائيل: حلف استراتيجي

علينا ألا نُغفل الحقيقة الثابتة وهي ان الخلافات بين نتانياهو واوباما مهما كانت حقيقية، فهي تبقى ثانوية. فأمريكا تتعامل مع اسرائيل كحليف استراتيجي، ورغم الخلاف حول اسلوب معالجة الازمة مع ايران، الا ان امريكا ترى في ايران تهديدا لها ولأهدافها في المنطقة. لمواجهة هذا الخطر اسرائيل تبقى الحليف المركزي القوي، اما الانظمة العربية الصديقة وغير الصديقة لامريكا فهي جميعا ضعيفة واستبدادية ولا تحظى بمصداقية ودعم جماهيرها، لذا فالاعتماد عليها محدود. ومن هنا فان "خطة اوباما" تبدأ بمصلحة امريكا ولكنها تأخذ بالحسبان مصلحة اسرائيل، اما الوعد بالدولة الفلسطينية فليس سوى وسيلة للوصول الى الهدف الاكبر وهو ضمان الهيمنة الامريكية في المنطقة والتفوق الاستراتيجي الاسرائيلي على العرب.

هذا الهدف الاكبر هو ما يكبّل يدي اوباما، ويحول دون تنفيذه التغيير الذي تعهد به. فلا هو، ولا اصحاب البنوك الكبيرة، ولا الشركات المتعددة الجنسيات، والجنرالات، واعضاء الحزب الديموقراطي في الكونغرس، مستعدين للتنازل عن النظام الرأسمالي الامريكي ولا عن التفوق الامريكي على العالم. ونتانياهو الذي يبني على الفوضى والضعف الفلسطيني وعلى الانقسام العربي، يعرف ايضا ان المؤسسة الامريكية الحاكمة تعارض التغيير الجذري. لذا فهو يناور، ويستجيب لبعض مطالب اوباما ويرفض التنازل في الجوهر، على امل ان يفقد اوباما مصداقيته ويتآكل التأييد الشعبي الذي يحظى به.

اذا اراد اوباما ان يتغلب فعلا على الحزبين الديموقراطي والجمهوري المسؤولين المباشرين عن الكارثة الاقتصادية التي يعيشها العالم والشعب الامريكي نفسه، اذا كان يريد تغيير المسار المدمر الذي تنتهجه امريكا منذ حرب الخليج الاولى والذي ادى الى دمار وحروب في العراق ولبنان وفلسطين ويهدد استقرار المنطقة برمتها، كان عليه الاعلان بوضوح عن خطة تنهي الاحتلال، تؤدي للانسحاب الاسرائيلي لحدود ال67، ازالة كل المستوطنات وتوجيه كل الموارد اللازمة لمساعدة الشعوب على بناء اقتصاد ومجتمع عصري لضمان السلام والاستقرار في المنطقة. ولكن خطة اوباما بعيدة كل البعد عن هذا الموقف، لذا لن يكون مصيرها بافضل حالا من مصير الخطط السابقة التي تحولت الى فصل من التاريخ، ووقت ضائع ومعاناة مستمرة لشعوب المنطقة.

اضف تعليقًا

ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.

الاسم

البريد الالكتروني

العنوان

موضوع التعقيب

تعليقك على الموضوع

Home نسخة للطباعة