تاريخ النشر ٢٣/٠٩/٢٠٠٨

حزب دعم

النظام الرأسمالي ضاع بين الحرب وازمة الاقتصاد

وثيقة المؤتمر السادس لحزب دعم العمالي المنعقد في حزيران 2004، تقدم الخلفية السياسية والاقتصادية لازمة رأس المال الحالية، كما تشير الى ظهور الحاجة للحل الاشتراكي.

دخل العالم منعطفا تاريخيا منذ اعلان ادارة بوش عن الحرب العالمية الرابعة، بعد احداث ايلول 2001. الاحداث التي هزت الانسانية ككل، سببت ازمة كونية استخدمتها الادارة الامريكية كرافعة لقلب المفاهيم العالمية. وكانت البوابة لاحداث التغيير هي الحرب على العراق والاطاحة بنظام صدام حسين. واذا كانت تسعينات القرن الماضي قد بدأت بعهد العولمة والازدهار، فسرعان ما انتهت الى حالة من الحروب والجمود الاقتصادي.

ما الاسباب التي ادت للانقلاب الحاد في الوضع العالمي؟ هل هناك سبب جوهري موضوعي، ام ان هذا، كما يدعي كثيرون، نتيجة رغبة شخص اراد ارهاب العالم؟ هل الارهاب هو السبب والعدو في نفس الوقت، ام اننا امام مفترق طرق مفصلي في تاريخ النظام الرأسمالي الذي اصبح الارهاب احد افرازاته، وليس سببا للازمة الكونية التي نمر بها؟

لقد اصبح الارهاب غطاء لسبب الازمة الحقيقي، وهو الخلل الكامن في النظام الرأسمالي والذي يتميز بالازمات الاقتصادية الدورية والحروب. المؤسسة الرأسمالية الحاكمة تدعي بطبيعة الحال العكس تماما. بالنسبة لها النظام الرأسمالي الديموقراطي هو امثل النظم، لانه يضمن الحرية والازدهار للانسان. ذلك انه يمنح الدافع للمبادرة والتجديد المستمر بشكل يضمن النمو والارتفاع الدائم في مستوى معيشة المجتمع.

ولا يرى انصار هذه النظرية الخلل في النظام الرأسمالي نفسه، بل في اعدائه الذين لا يحبون الحرية ويريدون استبدال النظام الديموقراطي الحر بالنظام الاستبدادي. فكرة تقسيم خيرات وموارد العالم بالتساوي، تشكل بالنسبة للمؤسسة الرأسمالية عقبة امام التطور الطبيعي الذي يعطي امكانية النجاح للافضل ويحكم بالفشل على الضعيف. حسب هذه النظرية، يمثل صدام حسين وبن لادن كل ما هو شر وعقبة امام التقدم، اما زعماء الدول الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، فهم رمز الخير الذي يوفر للانسان الحرية والازدهار.

ولكن الفجوة بين النظرية والواقع كبيرة. وقد بدأت معالمها تتضح تحديدا مع انفجار الازمة الاقتصادية في شرق آسيا في عام 1997 وانتقالها الى روسيا عام 1998، وصولا للارجنتين، ثم استقرارها في الولايات المتحدة نفسها حيث انهارت بورصة وول ستريت في آذار (مارس) 2000. اذن فقد كان هذا قبل العمليات الارهابية التي زلزلت الدنيا، ورغم محاولات تحميل بن لادن والاسلام السياسي المتطرف المسؤولية عن تدهور الاوضاع، الا ان السبب المباشر هو السياسة الاقتصادية التي فرضتها امريكا على الدول المذكورة، وعرضتها نتيجة لذلك الى كوارث اقتصادية ومشاكل اجتماعية وانقلابات سياسية خطيرة.

الاقتصاديون المعارضون لهذه السياسة، يحددون منشئ الازمة في مطلع 1981، عندما تولى كل من رونالد ريغان ومارغريت تاتشر رئاسة الحكم في الولايات المتحدة وبريطانيا على التوالي. فقد قلب ريغان كل المفاهيم الاقتصادية واحدث ثورة اقتصادية على النطاقين الامريكي والعالمي. السبب الرئيسي، وربما الوحيد، للازمات التي نعيش هو السياسة الاقتصادية العنيفة المرافقة بالجبروت العسكري الاستراتيجي الضخم الامريكي، وليس الجماعات الارهابية او الانظمة الاستبدادية العاجزة عن التأثير نوعيا على الاقتصاد والسياسة العالميين.

ان تخصيص الولايات المتحدة 500 مليار دولار من ميزانيتها في مجال الدفاع، لمكافحة الارهاب كما تدعي، يثير بشكل منطقي السؤال: هل الحرب مبررة؟ وأكثر من ذلك، هل من شأن القضاء على بن لادن او الاطاحة بصدام حسين، ان يفتحا المجال للنمو الاقتصادي والازدهار العالمي من جديد؟

منذ تحدى كارل ماركس النظام الرأسمالي، وكشف الخلل البنيوي فيه، واقترح برنامجا بديلا له، مضى اكثر من 150 عاما تمكن فيها النظام الرأسمالي من التغلب على ازماته، وصمد رغم الحالات الخطرة التي هددت كيانه. صحيح ان هذا النظام انهار جزئيا، مما فتح المجال لثورات اجتماعية عميقة هزت العالم، وصلت ذروتها في الثورة الاشتراكية الروسية عام 1917، الا ان انهيار الاتحاد السوفييتي قضى على الحركة العمالية العالمية، وخلق شكوكا في قدرة البرنامج الماركسي ان يشكل بديلا للنظام الحالي.

ومع هذا نسأل، هل كانت الثورة الروسية حدثا تاريخيا عابرا، ام انها كانت نقطة انطلاق مصيرية في مسيرة الانسانية نحو الاشتراكية؟ ولعل السؤال الاكثر الحاحا هو هل يستطيع النظام الرأسمالي الخروج من ازمته الحالية، ام اننا امام بداية لمرحلة جديدة قد تضطر الانسانية للبحث على بديل يمنع الدمار الشامل؟

على من يريد طرح بديل للنظام القائم ان يفهم تكوينه، سياسته، مشاكله والطرق التي يسلكها للتغلب على هذه المشاكل. ولهذا الهدف لا يكفي التطرق للنظام بشكل عام، او الاكتفاء بفحص احدى الدول الرأسمالية المتطورة سواء اليابان او اية دولة اوروبية، بل علينا فهم النظام الامريكي نفسه، نظرا لتأثيره شبه المطلق على العالم.

لقد اكدنا في اكثر من وثيقة ان الولايات المتحدة اصبحت آخر قلاع النظام الرأسمالي. ويأتي هذا خلافا لما حدث في القرن الماضي، عندما شكّلت امريكا القوة الاحتياطية للنظام الرأسمالي التي انقذت اوروبا من الانهيار في الحرب العالمية الثانية، ومنعت بذلك انتصار الاشتراكية الشامل. اعادة اعمار اوروبا حوّلت امريكا الى القائدة المطلقة للنظام الرأسمالي، ومصدر قوته الاقتصادية والاستراتيجية في مواجهة المنظومة الاشتراكية. ولكن العولمة التي وحّدت الاقتصاد العالمي، تبرز عدم وجود احتياطي آخر من هذا النوع، الامر الذي ينذر بان انهيار النظام الامريكي سيشكل انهيارا للنظام الرأسمالي العالمي، كونه آخر واهم معاقل هذا النظام.

بدأت الازمة مع انهيار مشروع النمو السريع في دول جنوب شرق آسيا. وكشف هذا نواقص العولمة التي افادت الدول المتطورة على حساب الدول النامية. نمو الحركة العالمية المعارضة للعولمة كان من علامات خيبة الامل الكبيرة من السياسة الامريكية. وما عمّق الاستياء، انه في ظل الازمة الكونية المتفاقمة دخلت امريكا نفسها الى وتيرة نمو متسارعة، لتقول للعالم ان ما يحدث من ازمات لن يمسها لانها تنتهج نظاما رأسماليا صرفا، صحيا وفعالا، هو نظام "الاقتصاد الحديث".

وتعزو امريكا لهذا "الاقتصاد الحديث" القدرة على التغلب على الازمات الدورية الناتجة عن الانتعاش والكساد. "السحر" الذي جاء به هذا النظام، هو الاختراعات التكنولوجية الجديدة التي خلقت اسواقا لا تنضب وطلبا متجددا. وكان المأمول ان يقضي الامر على ظاهرة اغراق الاسواق بالبضائع وزيادة العرض على الطلب التي تسبب هبوط الاسعار والارباح. غير ان انهيار بورصة نيويورك في آذار 2000 والركود الاقتصادي الذي تلى انفجار الفقاعة الاقتصادية، كشف كذب اسطورة "الاقتصاد الحديث". ومرة اخرى تبين ان النظام الرأسمالي لم يُشف من الخلل الاساسي، وانه لا يملك حلولا سحرية للشفاء منه.

ولم يمر هذا الانهيار دون ان يثير نقاشا حادا داخل امريكا، بين داعمي نهج السوق الحرة الحالي، وبين مؤيدي نهج دولة الرفاه وحتى "ثورة" ريغان في الثمانينات. المهم في هذا النقاش انه يفتح المجال لطرح حلول جذرية مختلفة عن النهجين المقترحين.

ان نهج دولة الرفاه لم يأت من فراغ. لقد جاء بسبب ازمة اقتصادية عميقة بدأت بانهيار البورصة في نيويورك عام 1929، وأدت الى ازمة كونية انتهت بنمو الفاشية في اوروبا والحرب العالمية الثانية. دولة الرفاه هي الاسم الثاني للاقتصاد المبرمَج (managed economy)، والذي تقوم فيه الدولة بفرض رقابة قوية على الاقتصاد، وتعمل على برمجته وضبطه لمنع الازمات. طُبّق هذا النهج منذ الحرب العالمية الثانية، بعد ان تبين ان الاقتصاد الحر كان السبب الرئيسي لازمة الثلاثينات. الانحراف عن سياسة الرفاه بدأ في السبعينات، مع تزايد "الحنين" لنهج السوق الحرة، الذي انتهى هو الآخر الى انهيار جديد في آذار 2000.

التجربة التاريخية تبين اذن ان كِلا النهجين لم يوفرا حلا جذريا للازمات الدورية التي تسبب احيانا ازمة تهدد الكيان الرأسمالي برمته، كما كان الحال عام 1929. ومن هنا، فلا بد من التشكيك في امكانية النظام الرأسمالي الحالي التغلب على محنته، الامر الذي قد يفتح المجال لمرحلة جديدة من العمل الثوري.

ما هي دولة الرفاه؟

دولة الرفاه هي النظام الاقتصادي الذي حكم اوروبا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يأت هذا النظام بشكل اختياري، بل جاء من خلال ازمة اجتماعية وسياسية عميقة. البطالة التي ارتفعت الى 20% في الولايات المتحدة في الثلاثينات من القرن الماضي، سببت مشكلة خطيرة. فقد هددت الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة، وقادت في اوروبا لانهيار النظام الديموقراطي وللانقلاب الفاشي. وجاءت دولة الرفاه بعد هزم الفاشية لتشكّل نظاما وسطيًا بين النظام الشيوعي وبين نقيضه الفاشي.

وساد الاعتقاد في تلك الفترة بان الاقتصاد الحر المعتمد على المنافسة الحرة بين الشركات، قد استنفذ نفسه بعد ان فشل في توفير العمل والرفاه لمعظم افراد المجتمع. وكان دور الحكومة حتى تلك الازمة، حفظ القانون ومنح اصحاب الشركات الكبرى والبنوك المسؤولية عن ادارة الاقتصاد. كما كان على الادارة الامريكية منع العجز في الميزانية والحفاظ على قيمة العملة لمنع التضخم المالي، بهدف تسهيل العملية الاقتصادية على رأس المال. وكان الاقتصاد محررا من اية رقابة على المتاجرة باسهم البورصة، ولم يتم الزام الشركات التي يتم تداول اوراقها في البورصة، بكشف حساباتها ورأسمالها.

وكان رأس المال مركزيا ومسيطرا على الحياة الاقتصادية، لدرجة ان اغلبية العمال الامريكان بقوا دون تمثيل نقابي حقيقي. وكانت للشركات نقابات تابعة لها تمثل مصالح الشركات امام العمال وليس العكس. ولم يكن للنقابات العمالية الهشة الحق بالتفاوض الجماعي، ولم تكن هناك محاكم لشؤون العمل ولا قانون يفرض الحد الادنى للاجور، او صندوق للتقاعد والتأمين الوطني. وبمعنى آخر، اعفت الحكومة رأس المال من كل التزام اجتماعي، وقمعت كل محاولة عمالية للتنظيم النقابي المستقل. وقد سادت البيئة المثالية لتطور رأس المال وجني الارباح دون عقبات، ولكن مع كل ذلك انهار هذا النظام في اواخر العشرينات وكشف نقاط ضعفه على الملأ.

ويُجمِع المؤرخون على ان دولة الرفاه المعروفة باسم "نيو ديل" (الوفاق الجديد) التي تأسست مع تولي الرئيس فرانكلين روزفلت حكم الولايات المتحدة عام 1933، جاءت لانقاذ النظام الرأسمالي. فقد كانت اوروبا في تلك الفترة امام خيارين: إما الفاشية التي احتكرت الاقتصاد لصالح رأس المال الكبير، وإما الشيوعية التي احتكرته لصالح الطبقة العاملة وقضت على رأس المال بالكامل. دولة الرفاه التي شكلت نوعا من الحل الوسط كما ذكرنا، احتلت دورا مهما في ادارة الاقتصاد ومراقبته، وتحولت الى حَكم بين النقابات وبين رؤوس الاموال، دون الغاء المؤسسات الديموقراطية.

وقد اعتمد نظام الرفاه على تعليمات جون ماينارد كينز، الاقتصادي البريطاني الكبير الذي ساهم في ابتكار الاقتصاد الكلّي (Macroeconomics) الهادف لضبط النظام الرأسمالي. وقد جلبت هذه السياسة انقلابا في المفاهيم، اذ لم يعد هدف الدولة ينحصر في انعاش السوق الرأسمالية فقط، بل امتد لخلق اماكن عمل ومكافحة البطالة التي هددت النظام. وهكذا، بدل ان يقوم اصحاب الرساميل بفصل العمال ووقف الانتاج وقت الازمات الدورية، قامت دولة الرفاه بخلق طلب للايدي العاملة (aggregate demand)، وشغلت العمال في القطاع العام وبادرت الى مشاريع عمل في البنى التحتية. وجاءت هذه السياسة غالبا على اساس خلق عجز كبير في الميزانية.

وكان اصحاب الرساميل يرون في هذه السياسة تضحية جليلة من طرفهم، اذ فرضت عليهم نظاما ضريبيا وصل الى 70% من دخلهم. وبالاضافة الى ذلك سبّب العجز في الميزانية والطلب الزائد، تضخما كبيرا في الاسعار وهبوطا وعدم استقرار في قيمة العملة. وقد اضر الوضع باصحاب الرساميل الذين لم يعد بوسعهم الحفاظ على قيمة استثماراتهم والتخطيط للمدى البعيد. وسرعان ما تبين انه في حين منعت السوق الحرة التضخم المالي وسببت بدلك ارتفاع نسبة البطالة، في سياسة الرفاه حدث العكس: ادت مكافحة البطالة لتضخم مالي. وببساطة، سياسة الرفاه لم تحل المشكلة جذريا.

ورغم ان نهج الرفاه اصبح مقدسا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وتبناه الجمهوريون والديموقراطيون في امريكا واليمين واليسار في اوروبا، الا انه من الصعب تقييم نجاعته. فقد شهدت تلك الفترة عملية اعادة اعمار النظام الرأسمالي في اوروبا على اسس جديدة، ووسعت امريكا احتكارها للعالم ونشرت نفوذها في المستعمرات الاوروبية سابقا. وكان لهذه التطورات السياسية اثر اساسي في النمو الاقتصادي السريع في الدول الرأسمالية المتطورة، بشكل قضى على البطالة لعقدين من الزمن. الاتساع المستمر للسوق العالمية، خلق ارباحا موّلت دولة الرفاه. بمعنى ان نظام كينز لم يطبق في وقت تقلصت فيه الاسواق وانخفض الطلب، الامر الذي من شأنه ان يقلل الثقة بنجاعة نظام الرفاه في الخروج من ازمة الثلاثينات.

دخول النظام الرأسمالي الى جمود اقتصادي في السبعينات، قضى على دولة الرفاه. السوق التي استنفذت نفسها تحولت الى ساحة للمنافسة الضارية بين الكتل الرأسمالية الاساسية، اليابان واوروبا وامريكا. في هذه المنافسة بدا ان مكانة الولايات المتحدة قد تقهقرت على الصعيد العالمي. وعلى السطح بدأت تطفو نواقص سياسة كينز، وتبين انها غير قادرة على منع البطالة، رغم التضخم المالي والعجز في الميزانية. في امريكا ازداد التضخم المالي والبطالة في نفس الوقت، الوضع الذي يطلق عليه بالانجليزية اسم stagflation. وافسح فشل دولة الرفاه المجال لعودة سياسة الاقتصاد الحر المؤسس على السياسة النقدية (monetarist). وتضع هذه السياسة في مقدمة اولوياتها مكافحة التضخم المالي من خلال الحفاظ على قيمة العملة. البطالة والاعتبار الاجتماعية، تصبح امورا هامشية لا تؤخذ بالحسبان.

لماذا "نيو ديل"؟

من المهم ان نفهم النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي اسسه روزفلت في الثلاثينات. لقد كان "ثورة" في الحياة السياسية في الولايات المتحدة، وضعت الاسس التي ضبطت حياة المجتمع، ولا يزال تأثيرها مستمرا حتى اليوم. وقد اثارت هذه "الثورة" نقاشا حادا في امريكا بين مؤيدين ومعارضين. لذا تعتبر الاجراءات التي اتخذها الرئيس ريغان بعد خمسين عاما من ولاية روزفلت، هي ايضا "ثورة" انقلبت على نظام "نيو ديل". ومن هنا، يمكننا الاستنتاج ان امريكا مرت بثورتين، كلتاهما فشلتا في حل امراض النظام البنيوية.

لم يكن في امريكا القرن العشرين رئيس أثر عليها، مثل فرانكلين روزفلت. فقد انتخب لمنصب الرئاسة اربع مرات متتالية في انتخابات 1932، 1936، 1940و1944، وتوفي قبل ان ينهي ولايته. وكانت شعبية روزفلت مستمدة من قوة شخصيته ومكانته كمنقذ للديموقراطية الامريكية. من يومه الاول في المنصب اعلن عن اجراءات طوارئ لإنقاذ الاقتصاد من الدمار الشامل. بهذه الطريقة تمكن روزفلت من قمع موجة التمرد التي انتشرت في المدن والريف بقيادة العمال الذين بقوا دون عمل والفلاحين الذين صودرت اراضيهم.

سبب التمرد نابع من معاناة المزارعين على خلفية هبوط اسعار منتجاتهم الزراعية. تراكُم الديون للبنوك، فتح شهية البنوك والشركات الزراعية الكبرى للاستيلاء على نسبة كبيرة من اراضي المزارعين، الامر الذي قاد لفصل 30% من القوى العاملة. وفي محاولة للحيلولة دون بيع مزارعهم في المزاد العلني، تمرد المزارعون واصطدموا بمنفذي اوامر المصادرة. وقد تدخلت الحكومة من خلال تحديد حصص الانتاج بين المزارعين، بهدف منع اغراق الاسواق بالسلع الزراعية حفاظا على اسعارها. وكانت تدفع للمزارع تعويضا ماليا معينا عن كل دونم ارض تمت تصفية محصوله الاضافي، وخاصة محاصيل القطن والحبوب.

ولكن نتيجة الديون التي لم يكن بمستطاع المزارعين تسديدها، اعلنت بنوك كثيرة افلاسها، واغلق اكثر من 5000 بنك محلي ابوابه. اما البنوك الكبيرة فاضطرت للاعلان عن ايام "عيد" كحجة لاغلاق ابوابها، خشية ان تطالب الجماهير بسحب اموالها. ولطمأنة الجمهور وعدت الحكومة بدعم البنوك الكبيرة، الامر الذي انقذ القطاع المصرفي من الافلاس التام.

اما في المدن فقد تجول الملايين دون مأوى باحثين عن لقمة عيش، وكان كل مواطن رابع عاطلا عن العمل. وبدأت في تلك الفترة حركة نقابية قوية جدا في مصانع السيارات، وبين سائقي الشاحنات ومناجم الفحم، وانخرط ملايين العمال فيها. وقد تمكنت النقابات ان تنتزع من الحكومة اعترافا بحق التنظيم والتفاوض، بعد مواجهات دامية مع الحرس الوطني كلفت العديد من القتلى والجرحى في صفوف العمال.

وكان اهم ما ميز نظام "النيو ديل" تخصيص الميزانيات لخلق اماكن العمل في القطاع الحكومي. فقد جنّدت الحكومة ملايين الشباب لزرع الغابات في اماكن اصيبت بالجفاف، كما شغّلت العمال في انشاء البنايات العامة كالمسارح، المكتبات، الشوارع والجسور. وكانت هذه البرامج مثابة مسكّن لمعاناة الناس، ولم تستطع حل مشكلة البطالة بشكل جذري. فالميزانيات الحكومية كانت محدودة، ولم يكن من الممكن ان تصبح بديلا عن القطاع الخاص الذي بقي جامدا ولم يستوعب ملايين العاطلين عن العمل. ومع ان الجمهور فقد ثقته بالنظام الاقتصادي، الا انه شعر بان الحكومة تفعل شيئا على الاقل، ولا تنتظر ان يشفى السوق من تلقاء نفسه.

في العلاقة مع ارباب العمل حاولت الحكومة التوصل لاتفاقات جماعية، بهدف تحديد الاسعار خارج قوانين المنافسة الحرة. وكان على الشركات التعهد باحترام حقوق العمال، وتوزيع الحصص الانتاجية بينها بشكل اشبه بالاحتكار. وكان هدف الحكومة منع المنافسة المدمرة بين الشركات التي ادت لهبوط الاسعار وتراجع الارباح. بهذه الطريقة سعت الحكومة لمنع فصل العمال او خفض اجورهم. غير ان المحكمة العليا اعلنت ان هذا النوع من الصفقات بين الحكومة والشركات، غير دستوري لأنه منع المنافسة الحرة وفضل الشركات الكبرى على المتوسطة والصغرى.

العهد الجديد (The New Era)

المتهم الرئيسي بالكارثة الاجتماعية التي ضربت الولايات المتحدة في الثلاثينات، كان بلا شك بورصة "وول ستريت". فقد حمّل الجمهور الامريكي مدراء البنوك الكبيرة مثل JP Morgan وChase National المسؤولية المباشرة عن انهيار البورصة، نتيجة المضاربة والتلاعب بالاسهم. من خلال صفقات ونشاطات استثمارية جاءت على حساب المستثمر العادي، جنى اصحاب شركات الاستثمار والبنوك مبالغ طائلة في فترات قصيرة جدا. الفقاعة التي انفجرت في اكتوبر 1929 كانت مؤسسة على معطيات غير دقيقة، وأحيانا كاذبة، قُدّمت للمستثمر العادي.

التقدم الكبير الذي شهده الاقتصاد الامريكي في مجال الاختراعات التكنولوجية الجديدة في تلك الفترة، وخاصة صناعة الكهرباء، النفط، السيارات، سكك الحديد، الهواتف والراديو، خلقت نشوة وغذت الفقاعة وضخمتها. وقد ساد الاعتقاد في الفترة بين 1927 – 1929 بان النمو السريع المبني على الاختراعات الجديدة من شأنه منع الكساد الدوري، الامر الذي برر الارتفاع غير المنطقي في اسعار الاسهم. بشكل شبيه، ادعى "الاقتصاد الحديث" في التسعينات هو الآخر، ان اختراعات الانترنت والحاسوب تدل على ان السوق يستطيع الاتساع دون حدود.

على ارض الواقع حدث العكس. فقد تمركز رأس المال في ايدي قلة من القوى الاقتصادية الضخمة. وخلق هذا التمركز نوعا من الاحتكارات في كل مجالات الحياة الاقتصادية. فسيطرت عدة بنوك على التجارة في البورصة، وسيطرت شركات معدودة على مجال توليد الكهرباء، سكة الحديد، السيارات او الفولاذ، الامر الذي منحها حرية رفع الاسعار دون حدود وجني الارباح السريعة. السيطرة شبه المطلقة على الاقتصاد منحت الشركات نفوذا سياسيا، عن طريق رشوة اعضاء في الكونغرس بمنحهم اسهما فيها.

وقد تنامى الشعور بالاستياء ضد سيطرة طبقة الارستقراطية المالية في مستهل القرن العشرين. في عام 1913 كتب قاضي المحكمة العليا الامريكية الذي اصبح فيما بعد من اشد المؤيدين لروزفلت، سلسلة مقالات نشرت في كتاب بعنوان "Other People’s Money"، يهاجم فيه بنوك الاستثمار، وعلى رأسها J.P. Morgan. ويحدد الكتاب ان مصدر الخطر هو في تمركز القوى الاقتصادية الضخمة في اياد معدودة استغلت موقعها لجني ارباح طائلة، دون ان تأخذ بعين الاعتبار مصالح الجمهور.

كانت هذه الخلفية لانشقاق الحزب الجمهوري عام 1912، اثناء ولاية تيودور روزفلت (لا علاقة له بفرانكلين روزفلت) الذي انتخب رئيسا للولايات المتحدة عام 1905. وعبر انشقاق روزفلت وتشكيله الحزب "التقدمي" Progressive Party، عن مخاوف الطبقة الوسطى من نمو الطبقة الغنية المتحكمة. ودعا الحزب الجديد لانتهاج سياسة حكومية تلجم الاحتكارات التي هددت بتصفية المنافسة الحرة ومصالح التجار والصناعيين الصغار.

بعد 15 عاما شهد النظام الرأسمالي اكبر انهيار له، بسبب هذه الاحتكارات. وكان من الطبيعي ان توجه اصابع الاتهام لهذه الشريحة، بعد تحذيرات شخصيات امريكية نافذة من خطورتها. وقد قام الكونغرس الامريكي بالتحقيق مع اغنياء ذلك "العهد الجديد"، الذين خشي الجميع مساءلتهم. رئيس لجنة التحقيق، القاضي فرديناند بيكورا، نشر استنتاجات لجنة التحقيق في كتاب بعنوان "Wall Street Under Oath" (وول ستريت تحت القسم) عام 1933. وادان القاضي قادة الاقتصاد الامريكي بالاختلاس، الكذب، التلاعب غير القانوني في الاسهم والتهرب من دفع الضرائب.

البنوك هي الاخرى خالفت القانون وشاركت في المضاربة بالاسهم. وكان قانون البنوك يمنعها من المشاركة في النشاط الاستثماري وإصدار الاوراق المالية، حرصا على ودائع الجمهور التي قد تتضرر بسبب عدم استقرار البورصة. وسمح للبنوك بالنشاط في مجال التوفير ومنح القروض فقط. وحتى في هذين المجالين سُنّت قوانين اجبرت البنوك على الحفاظ على حد ادنى من الضمانات، للحيلولة دون نشوء ازمة سيولة. غير ان البنوك لم تصمد امام اغراء الارباح الطائلة التي عادت عليها من اصدار اوراق المال والتي وصلت الى 8% من ارباحها.

وكان مدراء الشركات والبنوك مدفوعين لتضخيم الارباح من خلال المضاربة، لان اجورهم ارتبطت باداء الشركات في البورصة. وكان هؤلاء يتقاضون هبات على شكل "صناديق ادارة" management fund، وهي اشبه ب"الاسهم المستقبلية" (stock options) التي يتقاضاها المدراء في ايامنا. حسب هذه الطريقة يتقاضى المدير مبلغا اضافيا يعادل عدة اضعاف اجره الرسمي، في حال سجلت الشركة حدا اقصى من الارباح (super profits). وبما ان امرا كهذا مستحيل في ظروف المنافسة العادية، فقد لجأ المدراء الى تضخيم الارباح بعدة طرق منها: المضاربة، عدم كشف حقيقة وضع الشركة، الدخول في صفقات شبه وهمية لخلق الانطباع بان دائرة النشاط تتوسع وان رأس المال يزداد. ومع انه لم تكن هناك ارباح حقيقية، الا ان قيمة اسهم الشركة ارتفعت، وكذلك هبات المدراء.

عدم ثقة الجمهور بالبنوك والشركات لم يخلق فراغا اقتصاديا فحسب، بل سياسيا ايضا. فقد اعتمدت الاحزاب على القطاع الخاص لخلق النمو الاقتصادي واماكن العمل. ولكن الازمة العميقة في عام 1929 جعلت الدولة العنصر الوحيد القادر على تحريك الاقتصاد، مما اضطرها للاعتماد على ميزانيتها وليس على رأس المال الخاص. ولكن التقليد السياسي الامريكي منع فرانكلين روزفلت من خلق عجز كبير في الميزانية، الامر الذي عرقل الخروج من الازمة. وكانت النتيجة ازمة اقتصادية جديدة عام 1938، بعد نحو خمسة اعوام من نظام الرفاه.

قوانين اجتماعية ورقابة على رأس المال

واذا كانت اجراءات الطوارئ امرا مؤقتا بطبيعتها، فان القوانين الاجتماعية والاقتصادية التي سنّها الكونغرس في الثلاثينات تحولت الى ركن من اركان النظام في الولايات المتحدة حتى اليوم. وقد انقسمت القوانين الى نوعين: الاول، القوانين الاجتماعية وعلى رأسها قانون التقاعد للعمال وبرامج المساعدة لحماية الفقراء من شراسة النظام الرأسمالي. النوع الثاني، كان القوانين الاقتصادية التي اتت للجم حرية رأس المال.

رد فعل ارباب العمل ورؤوس الاموال على القوانين الجديدة، كان سلبيا جدا. في مقدمة كتابه، كتب القاضي بيكورا: "تحت سطح الرقابة الحكومية المفروضة على سوق الاوراق المالية، لا تزال نفس القوى التي خلقت المزايدات والمضاربة في السوق عام 1929، تثبت وجودها وتأثيرها... يقولون لنا ان هذه الرقابة تخنق تطور البلاد. لقد كانت وول ستريت عدوانية تجاه قوانين الرقابة، وهي تتطلع الى اليوم الذي ستعيد فيه لنفسها الزمام". وتنبأ بيكورا انه رغم ان هذه القوى "مقموعة الآن، فلا شك انها ستعود للنشاط الفاسد عندما تسنح لها الفرصة". وقد جاء هذا اليوم بالفعل بعد 40 عاما عندما انقلب ريغان على هذه القوانين، واعاد لوول ستريت صلاحية التحكم المطلق بالاقتصاد. وهي العملية التي قادت لانهيار البورصة من جديد في آذار 2000.

شبكة الضمان الاجتماعي التي كان صندوق التقاعد احد اركانها الاساسية، تكونت في فترتين مختلفتين: الاولى كما اسلفنا كانت في الثلاثينات؛ وكانت الثانية في الستينات، في ظل نشوء حركة السود التي طالبت بالحقوق المدنية، اثناء ولاية الرئيس ليندون جونسون التي شهدت ازدهارا اقتصاديا. وكان من اشهر الاصلاحات الاجتماعية في تلك الفترة، بالاضافة للقوانين التي ضمنت حقوق السود، تأسيس المشروع الصحي للمسنين وبرنامج مساعدة الفقراء.

وكان من اهم مساهمات دولة الرفاه في مجال الاقتصاد، تأسيس البنك المركزي الامريكي الذي سمي "مجلس الاسواق المفتوحة الفيدرالية". وكانت مهماته السعي للنمو الاقتصادي، مكافحة البطالة والحفاظ على قيمة العملة والميزان التجاري (الاستيراد والتصدير). والى جانب هذه المؤسسة المهمة، انشئت لجنة مراقبة البورصة (SEC) لمحاكمة كل من يخرق قوانين التداول في الاسهم. كما تم عام 1933 سن قانون خاص يفصل بين نشاط البنوك وبين صناديق الاستثمار، والمعروف بقانون Glass – Steagall.

ولغرض الرقابة على الاقتصاد تأسست وكالات فيدرالية كثيرة لمنع الشركات الكبرى من الاستيلاء على المجالات المختلفة. فانشئت الوكالة لمراقبة شركات توليد الطاقة وكان دورها تحديد الاسعار، وكان دور وكالة مراقبة وسائل الاعلام منع تمركز هذا الفرع القوي والمؤثر في اياد معدودة. الرقابة فرضت ايضا على الخطوط الجوية والطيران، وعلى مجالات الادوية، الاغذية والبيئة. وقامت وكالات على مستوى الولاية لمراقبة النشاط الاقتصادي ضمن حدودها.

غير ان حرب فيتنام والجمود الاقتصادي الذي اصاب الولايات المتحدة في السبعينات، وضعا حدا لتوسع نظام الرفاه الذي اضطر لتمويله اصحاب الرساميل. وارتفعت اصوات هؤلاء الاخيرين الذين رأوا في هذه القوانين عقابا لهم. واصبح المشروع الصحي وقانون التقاعد موضع نقاش حاد. ورأى الجناح المحافظ انه لا حاجة لهذه البرامج، وان على كل انسان شراء تأمين للمستقبل كما يشتري اي تأمين لاي شيء، دون تدخل الدولة ودون تحميل رأس المال نفقات ذلك.

الانقلاب على النيو ديل

في السبعينات من القرن الماضي طرأ تراجع كبير على مكانة الولايات المتحدة على المستوى المحلي والعالمي. وانعكس هذا من جهة في الهزيمة الامريكية في فيتنام، والحركة الجماهيرية الكبيرة المعارضة للحرب. ومن جهة اخرى، ادى جمود الانتاج الصناعي في امريكا نفسها، لارتفاع حاد في التضخم المالي والبطالة في نفس الوقت. واضافت الى اجواء عدم الثقة فضيحة "ووترغيت" التي انتهت بمحاكمة الرئيس نيكسون، وضربت مصداقية المؤسسة الامريكية الحاكمة.

وقد وقف الحزبان، الجمهوري والديمقراطي، عاجزين ازاء الركود الاقتصادي. المنافسة مع اليابان زادت من حدة الازمة. ارباح رأس المال الامريكي كانت مقيدة بالتكلفة العالية للايدي العاملة الامريكية ونسبة الضرائب المرتفعة. اما اليابان فشهدت ازدهارا نتيجة سياسة "التصدير العنيف" للبضائع الرخيصة، والتي كانت ممكنة بسبب التكلفة المنخفضة للعمال اليابانيين. وحل التضخم المالي محل البطالة، ليتحول الى المشكلة الاساسية التي يواجهها المجتمع الامريكي.

العجز في الميزانية الذي كان المفروض ان يحرك الاقتصاد من خلال خلق طلب اضافي (aggregate demand) واحداث اماكن عمل، فشل في مهمته وادى بالعكس الى تضخم مالي. وطالبت اوساط رأسمالية بالعودة للنهج الاقتصادي الذي اعتُمد قبل عهد روزفلت. ورأى هؤلاء بان كارثة 1929، لم تكن مسؤولية اصحاب رؤوس الاموال، بل الحكومة التي وقفت مكتوفة الايدي بدل دعم القطاع المصرفي وانقاذ البنوك من الافلاس.

مع تولي بول فولكر رئاسة البنك الفيدرالي الامريكي عام 1979، بدأت المفاهيم تتغير. وحلت مكافحة التضخم المالي محل مكافحة البطالة في رأس سلم الاولويات. هذا بعد ان تحول التضخم الى عدو رئيسي للنظام الرأسمالي، اذ ادى لاضراب رأس المال عن الاستثمار. وكان هذا شبيها بتمرد العمال في الثلاثينات، عندما كانت البطالة التهديد الرئيسي. واذا كانت نية الديموقراطيين انقاذ النظام الرأسمالي من خلال ارضاء العمال، فان نية الجمهوريين كانت انقاذ النظام من خلال ارضاء رأس المال.

هنا يتلخص جوهر النقاش بين الليبراليين من دعاة الرفاه المطالبين بان تراعي الحكومة مصالح المجتمع وتحميه من مآرب رأس المال؛ وبين المحافظين من دعاة السوق الحرة الذين يطالبون الحكومة بعدم التدخل في الاقتصاد، وافساح المجال لحكمة السوق لتحديد العلاقات بين الصناعيين والاجراء واحداث التوازن بينهما. حسب المحافظين: هناك طلب مقابل كل عرض، وبامكان المجتمع تنظيم نفسه بنفسه، اما تدخل الحكومة فسيعيق العملية ويضر بالحياة الاقتصادية الطبيعية.

النقاش الحاد انحسم بهزيمة الحزب الديموقراطي في انتخابات 1980. فوز رونالد ريغان من الجمهوريين المحافظين بالرئاسة تكرر في الانتخابات التالية، واستمر حكم الجمهوريين حتى نهاية ولاية جورج بوش الاب عام 1992. ورغم تغير الحكم استمر النهج الاقتصادي المحافظ. الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون اتم المهمة التي بدأها ريغان، وقضى على ما تبقى من نظام النيو ديل. بعد ان احكم رأس المال سيطرته على الاقتصاد، بسط نفوذه للسيطرة على السياسة. ولم يعد هناك مرشح سياسي قادر على الوصول للكونغرس، او لأي منصب مهم آخر، دون دعم الشركات الكبرى.

عملية تفكيك دولة الرفاه التي بدأها ريغان، تمت ببطء، ووصلت ذروتها في نهاية ولاية كلينتون، قبل فترة وجيزة من انفجار الفقاعة في البورصة. طبق ريغان سياسته العنيفة على كل الجبهات الخارجية والداخلية. وفي الوقت الذي كانت رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر، تقمع اضراب عمال المناجم، كان ريغان يكسر اضراب موظفي مراقبة حركة الطيران (flight controllers) ضمن خطة منهجية لكسر النقابات وضرب العمل المنظم واستبداله بسوق العمل "المرنة" اي غير المنظمة.

النتيجة كانت تراجع العمل النقابي ومنعه من قِبَل القطاع الخاص. واعطيت الاولوية للعمل حسب العقود، وتم الاعتماد على عمال القوى البشرية والعمال الاجانب غير المرخصين، وانتقلت مصانع كثيرة لدول شرق آسيا، حيث الايدي العاملة الرخيصة وعديمة الحماية النقابية. وادى هذا الامر لانخفاض ملموس في معدل الدخل في امريكا، وجمود في معدل الاجور لمدة 20 عاما.

الى جانب الهجوم على العمل المأجور، بدأت سلسلة من التسهيلات على رأس المال تجلت في خفض نسبة الضرائب من 70% الى 28%. ومع ان النتيجة الطبيعية لخفض نسبة الضرائب هي تقليص ميزانية الدولة، الا ان المحافظين يصرون ان هذا سيزيد زيادة جباية الضرائب. وهم يفسرون بان زيادة النشاط الاقتصادي ستزيد نسبة الدخل والارباح، الامر الذي سيزيد "كمية" الضرائب، الامر الذي سيعوّض عن انخفاض "النسبة".

ورغم خفض نسبة الضرائب، الا ان ريغان اضطر لزيادة ميزانية الدفاع، بهدف اعادة الهيبة لامريكا بعد هزيمة فيتنام. وقد ارتفعت ميزانية الدفاع من 134 مليار دولار عام 1980 الى 282 مليارا عام 1987. صحيح ان ريغان نجح في كسر شوكة الاتحاد السوفييتي من خلال سباق التسلح، الا انه لم يجد اجابة للسؤال: كيف يمكن خفض الضرائب بشكل لا يُحدث عجزا في الميزانية، ويكون بالامكان في نفس الوقت زيادة ميزانيتي الدفاع والرفاه؟

كان ريغان ينوي تقليص برامج الرفاه ونقلها من مسؤولية الحكومة الفيدرالية الى الولايات. وكان هدفه تقليص العبء البيروقراطي، وتحسين اداء الولايات، فيما يخص معالجة اوضاع المحتاجين. واستحدثت اجراءات اشترطت دفع المساعدات للمحتاج باثبات عدم ملكيته لاية وسيلة للعيش والرزق. وكان الانطباع العام الذي خلقته الادارة الامريكية ان الرفاه مخصص فقط للمحتاجين. وهكذا بقي الكثيرون، بينهم العاطلون عن العمل ومن لم يفوا بالشروط الجديدة، دون شبكة امان.

غير ان هذه السياسة التي غيرت وجه الولايات المتحدة، لم تمارس للنهاية. وخلافا لمنطق السياسة الجديدة، زادت ميزانيات الرفاه بنسبة 84% بين الاعوام 1982-1987، وهي الفترة التي شهدت انتعاشا اقتصاديا تجلى في زيادة 15 مليون مكان عمل. كما تم الابقاء على البرامج الاساسية مثل صندوق التقاعد الوطني والمشروع الصحي. السبب ان ريغان والمحافظين لم يمتلكوا القدرة السياسية والدعم من الكونغرس لإلغاء هذه البرامج.

والحقيقة ان ريغان لم يتقيد بخطه، وبما كان يفرضه على بقية الدول التي طلبت المساعدات الامريكية. الدول التي طبقت المذهب المحافظ بحذافيره، دفعت ثمنا اجتماعيا وسياسيا باهظا، انعكس في انتشار البطالة والفقر الذي قاد لانقلابات سياسية. اما ريغان الذي منح رأس المال التسهيلات، فلم يمتلك القوة السياسة لمطالبة الشعب الامريكي بدفع كامل الثمن على سياسته، خشية فقدان شعبيته. الحل الذي لجأ اليه، كان خلق ديون داخلية وخارجية ضخمة لا تزال تهدد الاستقرار الاقتصادي الامريكي.

العولمة - تتمة الانقلاب على "النيو ديل"

العولمة كانت السياسة التي اتمّت خطة ريغان، وشكلت عاملا مهما في تفكيك دولة الرفاه وانعاش الاقتصاد الامريكي. ولم يأت الانتعاش فقط على اساس الديون كما ذكرنا، بل ايضا على حساب الدول النامية التي كانت متعلقة تماما بالمساعدات الخارجية. الخبير الاقتصادي الكبير جوزيف شتيغليتس كان رئيسا للجنة الاستشارية لشؤون الاقتصاد في البيت الابيض اثناء ادارة كلينتون، وشغل منصبا رفيعا في البنك العالمي. في كتابه "Globalization and its Discontents" ينتقد شتيغلتيس السياسة الامريكية، ويتطرق للتغييرات التي طرأت على المنظمات الاقتصادية العالمية، وتحديدا البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، فيكتب:

"ان التغيير الاخطر في هذه المؤسسات كان في الثمانينات. وهو العهد الذي دعا فيه رونالد ريغان ومارغريت تاتشر العالم لاتباع فكرة السوق الحرة المطبقة في الولايات المتحدة وبريطانيا. وتحول صندوق النقد الدولي والبنك العالمي الى المؤسسات التبشيرية الجديدة التي استخدمت لفرض هذا النهج على الدول الفقيرة التي اضطرت للرضوخ نظرا لحاجتها الماسة للهبات والقروض". (شتيغليتس، ص 13)

وقد فسر شتيغليتس هذا التغيير في وظيفة النظام الدولي الذي اسسه كينز عام 1944، بالقول: "ان كينز لم يشخّص نقاط الخلل في السوق (التي تؤدي للازمات الحادة)، بل شرح كيف يمكن لمؤسسة مثل صندوق النقد الدولي ان تحسّن الوضع عن طريق الضغط على الدول لتشجيع اقتصاد يضمن التشغيل الكامل، وتوفير السيولة للدول التي تعاني من الكساد. وكان الهدف تكثيف النفقات الحكومية وتشجيع الطلب الاضافي على مستوى عالمي. اما اليوم فقد سيطر الاقتصاديون الاصوليون على صندوق النقد الدولي، وهم يرون ان اداء الاسواق ايجابي بشكل عام، اما اداء الحكومات فسيئ بشكل عام". (المصدر السابق، ص 196)

يتضح مما تقدم ان نفس المؤسسات التي انشئت لمساعدة الحكومات في التدخل لانقاذ الاقتصاد من الخلل الدوري، باتت اليوم تحيّد دور الحكومات وتفرض عليها الالتزام بقانون السوق. وقد ادى هذا التحول في دور المؤسسات البنكية العالمية، الى ازمات اقتصادية حادة وعدم استقرار سياسي في معظم الدول الفقيرة التي التزمت باملاءاتها.

منظمة التجارة العالمية (WTO)، انشئت في عهد كلينتون عام 1995. المنظمة التي هدفت لتنسيق التجارة العالمية، ساهمت هي الاخرى في الانقلاب المؤسساتي الذي بدأ في الثمانينات ضد نظام الرفاه. وكان هدف التغيير فتح الاسواق العالمية امام رأس المال العالمي، وتحديدا الامريكي. وقد فرضت الولايات المتحدة شروطا تجارية جائرة على الدول التي ارادت ان تكون جزءا من منظمة التجارة العالمية. واشترط الاستثمار فيها، بالعضوية في المنظمة والحصول على تقييم ايجابي من صندوق النقد الدولي.

هكذا يصف شتيغليتس الانفتاح الذي فرض على العالم في مجال التجارة: "الدول الغربية حفّزت الانفتاح التجاري (trade liberalization) في مجال المنتجات التي تصدرها. ولكنها واصلت حماية القطاعات التي كان من الممكن ان تنافسها الدول النامية" (المصدر السابق، ص60). وقد عملت الولايات المتحدة من خلال مفوّضها للشؤون التجارية، على فرض عقوبات تجارية على الدول التي ترفض املاءاتها، دون حاجة للجبروت العسكري.

الكيل بمكيالين

تبيّنا حتى الآن كيف فككت الولايات المتحدة الصمامات التي وضعها نظام دولة الرفاه، ولكن تبين ايضا ان النظام الرأسمالي لم يعتمد على قوانين السوق والمنافسة الحرة كما يدعي، بل لجأ الى صمامات امان اخرى مثل العجز في الميزانية والديون الخارجية. ومن جهة اخرى فرض هذا النظام سياسة تقشفية على ضحايا العولمة من الدول النامية، وذلك لتمكين الاقتصاد الامريكي من النمو وجني الارباح الخيالية.

السياسة التي فرضتها امريكا على الدول النامية، اعتمدت على "الاجماع الواشنطوني" الذي شمل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ووزارة المالية الامريكية. السياسة الجديدة اعتمدت على ثلاثة اسس رئيسية انسجمت مع الايديولوجيا السائدة في وول ستريت، وهي التقشف المالي (Fiscal austerity)، الخصخصة وانفتاح اسواق المال:

1. التقشف: كان الهدف من التقشف في نفقات الدول النامية، مكافحة التضخم المالي لاجتذاب الاستثمارات الاجنبية. الى جانب هذا فرض البنك المركزي نسبة فائدة عالية جدا للحفاظ على قيمة العملة المحلية. ووصلت الامور في عدة دول الى درجة ربط العملة المحلية بالدولار، الامر الذي نزع عن البنك المركزي صلاحية رفع او خفض نسبة الفائدة حسب حاجات الاقتصاد المحلي. واصبح الاقتصاد موجها لخدمة رأس المال الاجنبي، وليس لتشجيع نمو الصناعة المحلية من خلال القروض والتسهيلات المالية الاخرى، الامر الذي ادى لارتفاع حاد في نسبة البطالة.

دخول البنوك الكبرى للدول النامية ادى لاغلاق البنوك المحلية التي عجزت عن المنافسة. وقاد تفضيل البنوك الاجنبية دعم الاحتكارات الكبرى الاجنبية، لافلاس الشركات المحلية التي لم تستطع المنافسة بسبب نسبة الفائدة العالية التي فرضتها عليها البنوك. النتيجة كانت فصل ملايين العمال وانهيار الصناعة المحلية. وكانت الاحتكارات تتعمد خفض اسعارها حتى تكسر الصناعات المحلية، ثم تعود لرفع الاسعار الى نسب اعلى مما كانت في السابق، الامر الذي حصر دائرة المستهلكين في شريحة اجتماعية محدودة.

2. الخصخصة: بحجة عجز الحكومة عن تقديم الخدمات بطريقة ناجعة ورخيصة للمواطن، استولت الاحتكارات على كافة مجالات الخدمات الحيوية مثل المياه، الكهرباء، الهاتف، المواصلات، البريد، الموانئ، المطارات والصحة. النتيجة كانت سريعة: فصل مئات الآلاف من عمال القطاع العام، وحرمان العاطلين عن العمل والمحتاجين من الخدمات الحيوية المذكورة.

الثمن الاخلاقي للخصخصة كان باهظا. فبهدف الاستيلاء على مرافق القطاع العام باسعار بخسة، لجأت الشركة الاجنبية لدفع رشاوى للموظفين الحكوميين. بمعنى ان هذه السياسة العبقرية التي اتهمت الحكومات بالبيروقراطية، ساهمت في نشر الفساد وخلق شريحة من الاغنياء الجدد الذين تعاونوا معها في نهب الموارد الوطنية. بهذه الطريقة قُضي على ما تبقى من المؤسسة السياسية في الدول التي طبقت الاملاءات الامريكية مثل روسيا، اندونيسيا، كوريا الجنوبية والارجنتين.

3. الانفتاح: يشير شتيغليتس الى ان الانفتاح في اسواق المال بتشجيع من وول ستريت كان "اهم العناصر التي ادت للازمة" في دول جنوب شرق آسيا. وكانت دول تلك المنطقة من قبل تطبق سياسة حماية الصناعة المحلية، وفرضت قوانين صارمة ضد المضاربة في البورصة، الامر الذي سمح بتحقيق نسبة نمو ملحوظة. غير ان رأس المال الامريكي سعى لتوسيع الاسواق امامه ليتمكن من زيادة ارباحه، فضغط على هذه الدول لفتح اسواقها امام التجارة الحرة في اوراق المال.

وفي حين بقيت المساعدات الخارجية دون تغيير، ازدادت كمية الاستثمارات الخاصة نتيجة الانفتاح بسبعة اضعاف خلال سبعة اعوام. وسمي هذا الاستثمار بالمال الساخن (hot money)، لانه لا يستثمَر للمدى البعيد في بناء الصناعة او البنية التحتية مثلا، بل يستثمَر لفترة قصيرة جدا. وبمقدور هذا المال الخروج من السوق اذا شعر بان قيمة الاسهم ارتفعت للدرجة التي تسمح ببيعها وجني الارباح. ويسبّب الانسحاب من السوق انهيارا مفاجئا في قيمة العملة المحلية والبورصة.

العولمة بالنسبة لامريكا كانت تحقيق نمو معين جدا لاقتصادها على حساب العالم ككل. من خلال الانفتاح المصرفي، ضاعف القطاع البنكي الامريكي رأسماله على اساس تدمير اقتصادات الدول النامية. ومن خلال الخصخصة ضاعفت الاحتكارات الكبرى رأسمالها على انقاض البنية التحتية في الدول الفقيرة. اما الشركات الصناعية والزراعية الامريكية الضخمة، فاستفادت من الاتفاقات التجارية التي منحتها الافضلية، على حساب الصناعات المحلية والزراعية في الدول النامية. كان هذا سر "الاقتصاد الريغاني" (Reaganomics)، او "السياسة الحكيمة" التي استبدلت نظام الرفاه.

اسطورة الاقتصاد الحديث

بعد انهيار بورصة "ناسداك" في آذار 2000، انتهى الحديث عن "الاقتصاد الحديث". حتى ذلك الحين كان الاقتصاد الحديث عقيدة علمية ثابتة اجمع عليها الاقتصاديون والمحللون، الذين ارادوا تفسير النمو المذهل والازدهار الاقتصادي غير المسبوق الذي شهدته التسعينات.

يفسر شيتغليتس ماهية الاقتصاد الحديث في كتاب آخر صدر له بعنوان "The Roaring Nineties" (زئير التسعينات). ويشير الخبير الى انه بينما ادت الثورة الصناعية الى تغيير اسس الاقتصاد من الزراعة للصناعة، ادى الاقتصاد الحديث الى تغيير لا يقل خطورة، وذلك بالانتقال من صناعة البضائع الى صناعة الافكار وبرمجة المعلومات. حجم الصناعة انخفض الى 14% من مجمل الانتاج (output)، والى نسبة اقل منها من مجمل المشتغلين. والاهم من ذلك، يدعي شتيغليتس، ان الاقتصاد الحديث وضع حدا للدورة الاقتصادية، لان التكنولوجيات المعلوماتية منحت الشركات امكانية التحكم بشكل افضل بمخزون السلع. (شتيغليتز، ص5)

تفسير شتيغليتس ليس التفسير الوحيد. فهناك من يرى ان الدمج بين رأس المال المغامِر (adventure capital) وبين الاختراعات العلمية الجديدة، يولّد سوقا وحاجات متجددة باستمرار، لا تعرف الاشباع والكساد. هذه السوق الخيالية يحركها مبادرون رأسماليون وخريجو جامعات التقوا في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا، لابتكار العالم الجديد الذي نعيش.

"الاقتصاد الحديث" في التسعينات، ومن قبله "العهد الجديد" في الثلاثينات، كانا اسطورة هدفها تضليل الناس. الادعاء بان قوانين الاقتصاد تغيرت لم يكن نابعا من نظرية علمية موضوعية. بل كان هدفه اغراء الجمهور للاستثمار في البورصة، واقناعه "بشكل علمي" ان المغامرة غير خطرة. مجال المضاربة كان صناديق التقاعد التابعة للجمهور الواسع. الكثيرون استثمروا كل توفيراتهم واقترضوا من البنوك للمشاركة في اللعبة الجديدة. وكان حجم المشاركة الجماهيرية في تجارة الاسهم، كبيرا جدا.

لقد اقتنع الجمهور بان قوانين السوق تغيرت بالفعل، وان الاقتصاد لم يعد محكوما بحساب الربح والخسارة، بل بالامكانيات الكامنة في مبادرات لا يستطيع احد التحقق من نجاحها او اخفاقها على المدى البعيد. وقد ذهب البعض لدرجة وصف المشاركة الجماهيرية في البورصة، بانها رأسمالية ديموقراطية الغت الحاجة للاشتراكية. الادعاء ان النظام الجديد خلق نوعا من المساواة، اصبح فيه كل عامل شريكا مساهما في الشركة، وصارت ارباح الشركة مصدرا لارباحه هو ايضا. وبمعنى آخر، خُلق الانطباع بان الاقتصاد الحديث قضى على الدورة الاقتصادية التي كانت تنتهي بالكساد، كما قضى على التناقض بين رأس المال والعمل المأجور، واصبح النمو مصلحة مشتركة للطرفين.

ولا بد من الاشارة الى الدور الاساسي الذي لعبته بورصة "ناسداك". فهذه البورصة التي انشئت عام 1971 وتداولت الاسهم بطريقة الكترونية، شجعت الشركات الصغيرة على التسجيل في قوائمها دون تقديم ضمانات لحماية مصالح المستثمرين. وللمقارنة، فرضت بورصة وول ستريت على الشركة المساهمة ان تكون ذات رأس مال من 60 مليونا، في حين اكتفت بورصة ناسداك برأسمال من ثمانية ملايين دولار. وقد شجّعت هذه القوانين المتاجرة باسهم شركات لم تُثبت ان لها اسسا متينة تمكّنها من الصمود. في عام 1999 ارتفعت قيمة اسهم هذه الشركات الى ثلاثة اضعاف قيمتها، الامر الذي ضاعف خطورة الاستثمار فيها.

لقد انتهت الاسطورة بانهيار بورصة ناسداك، وشطب 8.5 تريليون دولار في فترة قصيرة. وكان هذا يعني ضياع ثلث قيمة برامج التقاعد الفردية. ولكن الامر المهم هو ان التحديث التكنولوجي الذي "خلق" سوقا جديدة، حسب ادعاء انصاره، لم يتمكن من وضع حد للازمة الدورية. وسرعان ما تبين ان احدى ميزات التكنولوجيا المتطورة انها تزيد الانتاجية، الامر الذي يهدد بإغراق الاسواق بالبضائع دون ان تجد طلبا في المقابل. الاستثمارات الضخمة التي لم تجد سوقا كافية خلافا للتوقعات، ساهمت هي الاخرى في ادخال الاقتصاد لركود عميق.

السوق ليست مطاطية اذن، بل لها حدود تقررها القوة الشرائية لجمهور المستهلكين. وقد تراجعت هذه القوة نتيجة التقسيم غير المتساوي لثروات المجتمع. ان القوة الشرائية تبقى هي القانون الذي يحكم السوق، وليس الاختراعات العبقرية التي لا تجد من يستطيع شراءها.

كلينتون يكمل ريغان

انهيار البورصة جاء في آذار 2000، في بداية ولاية الرئيس جورج بوش الابن. ولكن احدا لا ينفي ان المسؤول الرئيسي عن الانهيار، وعن الركود الذي اصاب امريكا بعد عام، كان الرئيس كلينتون الذي حكم معظم سني التسعينات. لقد انتخب كلينتون لإحداث تغيير في سياسة ريغان، التي انتهت بركود اقتصادي. وهو الركود الذي تسبب في خسارة بوش الاب الانتخابات الرئاسية لولاية ثانية.

كان كلينتون زعيما لما سمي "الديموقراطيين الجدد". وكان دوره تحديث برنامج الحزب الديموقراطي المستند الى دولة الرفاه. ولكن، بعد ان تمكّن من اخراج الاقتصاد الامريكي من الركود، من خلال تقليص ميزانية الدفاع ورفع الضرائب، لجأ للتحالف مع المحافظين الجدد في الكونغرس. وقد توطد التحالف تحديدا في ولايته الثانية، عندما راح يطبّق السياسة التي تعطي الاولوية لرأس المال.

وقد أحدثَ كلينتون معجزة اقتصادية، وصل فيها النمو الى نسب عالية تفوق ال5%، في حين تدنت نسبة البطالة الى اقل من 4%. كل هذا دون التسبب بتضخم مالي. وكان الاعتقاد السائد حتى ذلك الحين، ان اي تدنٍّ في نسبة البطالة الى اقل من 6%، سيؤدي بالضرورة الى تضخم مالي، ما سيفرض على البنك الفيدرالي رفع نسبة الفائدة (شتيغليتز، The Roaring Nineties، ص70). كما ساد الاعتقاد بان التشغيل الكامل سيؤدي لارتفاع الاجور، مما سيضطر الصناعيين لرفع الاسعار للحفاظ على نسبة الربح. كيف تمكن كلينتون اذن من عدم التسبب بالتضخم المالي رغم ارتفاع نسبة البطالة؟ بعض المحللين عزوا الامر للتحديث التكنولوجي الذي زاد الانتاجية. فكان كل عامل ينتج كميات اكثر، الامر الذي عوّض عن ارتفاع الاجور وضمن بذلك نسبة الارباح.

رغم قيام كلينتون برفع الضرائب، الا انه بدأ بعملية تفكيك صمامات الامان التي لجمت رأس المال، ووضع بذلك حدا لسياسة كينز الاقتصادية. ولم تعد في الساحة السياسية الامريكية قوة حقيقية معارضة لبرنامج المحافظين الجدد. هؤلاء الاخيرون تمكنوا من تصدر مواقع متنفذة داخل حزبهم والحزب الديموقراطي ايضا. الاجماع الواشنطوني تحول بذلك الى اجماع سياسي بين الحزبين الكبيرين. وكان هذا انتصارا كبيرا لوول ستريت التي استعادت نفوذها بعد 60 عاما.

القوانين التي سنّت في عهد النيو ديل في الثلاثينات، الغيت في عدة مجالات اهمها: الاتصالات، الكهرباء، القطاع البنكي والحسابات. وكان لهذه المجالات اثر مباشر في خلق الفقاعة في البورصة. وكان ادعاء اصحاب الرساميل ان تحديث القوانين ضروري ليتلاءم مع توسع مجال نشاط رأس المال الامريكي. وقد اراد هؤلاء الحصول على امتيازات في منافسة الشركات المتعددة الجنسيات التي ابدت اهتمامها بالسوق الامريكية. مثال على ذلك، قيام شركة مياه فرنسية بشراء شركة كبرى لانتاج الافلام. وقد احتاج رأس المال الامريكي ظروفا افضل للمنافسة مع الشركات الاجنبية الاخرى.

وكما كان الحال في العشرينات من القرن الماضي حين لعبت شركات سكة الحديد دورا رياديا في تطوير الاقتصاد وكونت الفقاعة التي انفجرت في 1929، كذلك اصبح مجال الاتصالات في التسعينات اهم حافز للنمو، وكانت اسهم الشركات التي تعمل في هذا المجال الاكثر شعبية في بورصة ناسداك. وقد خلق مجال الاتصالات ثلثي اماكن العمل الجديدة، وسيطر على ثلث الاستثمار بين الاعوام 1992-2000.

وفي عام 1996 الغي قانون سن عام 1934 كان هدفه ضبط النشاط في هذا المجال. وجاءت النتيجة سريعة جدا. فقد استولت الشركات الكبيرة على السوق، وفاقت استثماراتها الحاجة الحقيقية في السوق، وبقي الكثير من الالياف البصرية (fiber optic) دون طلب. لقد كانت التوقعات غير واقعية لدرجة ان الخسائر بلغت عام 2002 في هذا القطاع 2 تريليون دولار.

ولعل الخطوة الاكثر خطورة كانت الغاء قانون (Glass Steagall) الذي سُنّ عام 1933. وكان هدف القانون الفصل التام بين البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية، وحسبه التزم البنك التجاري باستقبال الايداعات ومنح القروض، وتركز بنك الاستثمار باصدار الاوراق المالية للمضاربة بالبورصة. الغاء القانون ادى الى عملية دمج هائلة لبنوك مثل بنكي JP Morgan Chase وCitigroup اللذين اشتريا شركة Salomon Smith and Barney والتي تخصصت في المتجارة بالبورصة (brokerage firm).

وقاد دمج المجالين الى خلل كبير في المجال المصرفي. فحتى الغاء القانون المذكور كان على البنك التأكد من قدرة الشركة التي تطلب القروض، على حماية الجمهور الذي اودع لديه توفيراته. ولكن في اللحظة التي تحوّل فيها البنك الى الطرف الذي يصدر الاسهم لصالح نفس هذه الشركات، فقد اصبح معنيا بإنجاحها في البورصة للاستفادة من العمولة الهائلة (8% من قيمة الاسهم المُباعة). بذلك ضعفت المراقبة على قدرة الشركة الاقتصادية لان البنك اصبح حريصا على مصلحة الشركة قبل مصالح زبائنه العاديين.

وكان احد اهداف قانون Glass Steagall منع استيلاء رأس المال المالي على الاقتصاد من خلال قوته المالية التي لا يمكن لاحد منافستها. وفي لحظة ابطال القانون، تمكنت هذه القوة من السيطرة المطلقة على البورصة. وقد استغلت في ذلك مسؤوليتها عن نشر المعلومات حول وضع الاسهم والشركات، وتحكمها بعملية اصدار هذه الاسهم. وقد منحت البنوك قروضا للشركات التي توجهت اليها لإصدار الاسهم، لتمكينها من تنفيذ مناوراتها الاقتصادية مثل الاستيلاء على شركات منافسة.

وكان الربح من اصدار الاسهم كبيرا جدا، وكان البنك يشتري الاسهم بسعر منخفض ويأخذ بالاضافة الى ذلك عمولة بنسبة 8% عن الارباح من نفس الاسهم. وبايجاز، كان هذا الاحتكار المطلق سبب الفضائح التي تورطت فيها نفس الجهات التي مثلت امام لجنة التحقيق في الكونغرس قبل اكثر من 60 عاما، ومنها JP Morgan, Chase, City والتي بسببها تم سن قانون عام 1933.

رأس المال في المحاكم

الفضائح التي انكشفت مع انهيار البورصة عام 2000، ادت الى محاكمة المسؤولين في كل مجالات الحياة الاقتصادية. وكان هؤلاء منتمين الى اهم وأضخم الشركات المتعددة الجنسيات التي تنشط في كل انحاء العالم. وكانت فضيحة شركة انرون من اشهرها، اذ ان شركات عديدة تورطت فيها. وبانهيارها انهارت احدى اهم شركات تدقيق الحسابات "اندرسون"، والتي غطت على النشاط غير القانوني في انرون. كما تورط بنك "سيتي غروب" في نفس الشبكة، وقُدّمت ضده شكوى، وفُرضت عليه غرامة مالية عالية بسبب منحه قروضا بشروط غير مناسبة للشركة. وحوكم المحللون في شركة "سالومون"، وفرضت عليهم غرامة ومُنعوا من النشاط في البورصة، ولا يزال مدراء انرون يمثلون امام المحاكم حتى الآن.

وقد فتح تورط هذه الشركات ملف التحقيق ضد كل الشركات التي عملت في نفس المجال، الامر الذي اكد ان ما حدث في انرون كان قاعدة وليس استثناء. وكما وصل اصحاب الرساميل الى المحاكم بسبب النهج الذي اتبعوه، كذلك حدث اليوم في اللحظة التي مُنحوا الفرصة للعودة لنفس الطريق.

افلاس انرون لم يكشف فقط عن اخطاء في الحسابات واستثمارات غير مجدية ادت للخسائر، بل كشف عن سلوك جنائي منهجي كان هدفه اختلاس الاموال على حساب الناس البسطاء. وقد تصرف المدراء في مجال النشاط الاقتصادي بطريقة استبدادية ودون مراقبة. فمنحوا لانفسهم قروضا، هبات وزيادات بالاجور، دون علاقة للامر بالاداء الحقيقي للشركة. وكان المحاسب يتقاضى اجرا عاديا مقابل تدقيق الحسابات، واجرا عاليا جدا يصل الى عشرات ملايين الدولارات مقابل خدمة "استشارية" لم تكن سوى رشوة مقابل "طبخ" دفاتر الحساب او بمعنى آخر تزييفها.

صحيح ان مظاهر الفساد رافقت دائما وابدا كل جهاز حكومي، ومعروف ان الحكومة تمنح المجال للرشوة للحصول على تراخيص وتسهيلات. ولكن في النظام الديموقراطي تخضع الحكومة للرقابة، وتواجه امكانية استبدالها من خلال صناديق الاقتراع. اما رأس المال فلا رقابة تحكمه، كما لا يمكن استبداله من خلال انتخابات، الامر الذي يضع المجتمع امام طريق مسدود.

ان رأس المال المالي لا يحب ان يلعب بماله، بل يفضل دائما المغامرة باموال الغير. وليس "الغير" هذا سوى الجمهور الواسع الذي يتم تشجيعه على استثمار امواله في البورصة او في بنوك الاستثمار، لتحقيق ارباح اكبر من تلك التي يمكن تحقيقها من خلال الفائدة البنكية العادية. وليس هذا فحسب، فالعامل يحصل على برامج تقاعد خاصة يطلق عليها اسم 401(k)، وهي عبارة عن اسهم يتم تداولها في البورصة. والحال انه اذا فقد الجمهور ثقته برأس المال، فستشح مصادر تجنيد الاموال، الامر الذي سيجمد نشاط البورصة.

ولا تنتهي المشكلة عند المجال الاقتصادي، بل تتعداها للمجال السياسي. فالشركات تتحكم تحكما مطلقا بالسياسة، تموّل الساسة، وتنفق مبالغ كبيرة على اللوبي الخاص بها في الكونغرس. وهناك ظاهرة تشهد تنقل شخصيات بين مناصب وزارية في الحكومات، ومناصب رفيعة في الشركات. ومن المعروف ان وزير المالية في عهد كلينتون شغل منصبا مهما في شركة استثمار بالبورصة، وعاد لنفس المجال بعد انتهاء ولايته. وتملك عائلة بوش اسهما في شركة "كرلايل"، اما نائب الرئيس الامريكي، ديك تشيني، فكان مديرا لشركة "هليبرتون"، وكان جورج شولتز، وزير خارجية ريغان، واحد اهم الشخصيات في الحزب الجمهوري، من اصحاب شركة "بختل".

الشركات الامريكية العملاقة التي تحكم امريكا، والتي يصطلح على تسميتها Corporate America، تتمتع بنفوذ حاسم في كلا الحزبين. لذلك فعندما نتحدث عن فشل القطاع الخاص في ادارة الاقتصاد، فاننا لا نتحدث عن مجرد مشكلة اقتصادية، بل عن مشكلة سياسية من الدرجة الاولى. فاذا ضمن الدستور الامريكي الفصل بين السلطات التشريعية والقانونية والتنفيذية من اجل خلق توازن حكومي وفرض رقابة، فان الدمج بين رأس المال والحكومة افسح المجال لاستيلاء الاغنياء على الحكم من خلال ما يسمى "بلوتوقراطية" (plutocracy)، اي حكم الاغنياء.

وقد قضت هذه الظاهرة على العملية الديموقراطية نفسها، فخضوع كلا الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديموقراطي، لرأس المال لا يمكن ان يحل باستبدال حزب بآخر، علما انه لا بديل سياسي ثالث. الخطير في الامر، انه عندما سينتهي الانتقال السريع من دولة الرفاه الى اقتصاد السوق الحرة، بكارثة اقتصادية، فلن يكون هناك بديل حقيقي على المستوى الاقتصادي والسياسي معاً.

ثلاث مراحل في تطور الاقتصاد الامريكي

اذا اردنا فهم المرحلة الراهنة التي يمر بها النظام الرأسمالي، علينا اجراء مراجعة تاريخية بدءا بأزمة 1929 وحتى الآن. وتكشف المراجعة ان الولايات المتحدة لم تتمكن من حل الخلل الاساسي في نظامها، وحتى لو صمدت امام الازمات الموسمية، فان كل محاولة للحل تجر وراءه كوارث اقتصادية داخل وخارج الولايات المتحدة نفسها. من الواضح ان تقسيم التاريخ الى مراحل بهدف مراجعته، لن يكون دقيقا، وبالامكان تقسيم المراحل حسب معايير مختلفة، ولكن القصد هنا هو تسهيل فهم الطريق المسدود الذي وصلته امريكا والنظام الرأسمالي ككل.

المرحلة الاولى في المراجعة تتعلق بالاحتلال الداخلي للاقتصاد الوطني. فبسبب كبر وضخامة البلاد، انشغلت امريكا بسوقها المحلية وكانت سياستها الخارجية انعزالية لا ترى مصلحة في التدخل بالحروب والمشاكل في اوروبا. وقد تعرض الرئيس الديموقراطي ويلسن لانتقادات حادة لتدخله في الحرب العالمية الاولى عام 1918، وقام الكونغرس الامريكي بإفشال مبادرته لاقامة عصبة الامم.

وكانت احدى المشاكل الاساسية التي شلت الاقتصاد، فائض الانتاج الذي احدث خللا وعدم توازن بين العرض والطلب، وادى لهبوط الاسعار. وكانت قدرة الاقتصاد اكبر من قدرة السوق المحلية على الاستيعاب. ولم يكن بمقدور نظام النيو ديل ان يحل هذه المشكلة الاساسية، فاستمرت الازمة الاقتصادية ونسبة البطالة المرتفعة حتى دخلت الولايات المتحدة الحرب.

ان ما أنقذ الاقتصاد الامريكي بعد كارثة 1929، لم تكن ثورة النيو ديل، بل وقوع الحرب العالمية الثانية. فقد اضطرت الحكومة للانفاق في الصناعات الحربية، مما قضى على البطالة، ولكن على حساب إحداث عجز كبير في الميزانية. ولكن ما سمح بالازدهار في الخمسينات والستينات كان الدمار الشامل الذي شهدته اوروبا، والذي منح الولايات المتحدة الافضلية في السوق العالمية. لقد كانت الكارثة في اوروبا الشرط المسبق للازدهار الامريكي.

وقد تمتعت الولايات المتحدة بنمو سريع جدا وازدهار طويل طيلة الخمسينات والستينات، بتحولها الى قوة عظمى استعمارية وتسويقها منتجاتها للعالم كله. وكون الدولار في تلك الفترة العملة الوحيدة المتداولة دوليا، اجبر دول العالم على شراء الدولارات، الامر الذي حافظ على قيمة العملة ومنح الاقتصاد الامريكي افضلية على اوروبا التي كانت في طور اعادة البناء. وقد خلفت امريكا بريطانيا في الاستيلاء على المستعمرات، وتحديدا منابع النفط في الشرق الاوسط. ومنح هذا الشركات النفطية الكبيرة وشركات السيارات مكانة مرموقة في الاقتصاد الامريكي والعالمي.

وقد انتهت هذه المرحلة في السبعينات، باضطرار امريكا لتقاسم السوق العالمية مع منافسين جدد مثل اليابان واوروبا. واتضح ان العهد الامريكي انتهى، وبدأ العهد الياباني. وبعد جمود استمر عقدا من الزمن، استطاع رأس المال بدء ثورته من خلال حكومة ريغان. ومن الممكن القول ان العولمة بدأت في تلك الفترة، والتي أُجبرت فيها الدول النامية على فتح اسواقها امام رأس المال الامريكي، وبدأت الشركات الامريكية نقل مصانعها للخارج، لاستغلال الايدي العاملة الرخيصة.

واذا كان ريغان قد وضع الاسس لهذه المرحلة الجديدة، فقد كان كلينتون منه استكملها، وخاصة بعد ان تهيأت الظروف بسقوط الاتحاد السوفييتي وتحوّل امريكا الى القوى العظمى الوحيدة. وقد تجلى الامر بتعميق استغلال العالم، والقضاء على ما تبقى من الدول النامية "الناجحة" مثل دول شرق آسيا، والتسبب بركود اقتصادي في اليابان الذي فقد افضليته مقابل رأس المال الامريكي، وجلب كوارث اقتصادية في شتى انحاء العالم، الامر الذي زاد الكراهية لامريكا وضرب بمصداقيتها في انظار دول العالم.

وكان انهيار بورصات دول شرق آسيا بداية النهاية لهذه المرحلة، التي وصلت قمتها بانهيار البورصة في نيويورك في آذار 2000 والركود العميق. فبعد ان استنفذ رأس المال الامريكي الاقتصاد المحلي، استنفذ ايضا طاقته في منافسة الكتل الاقتصادية الكبيرة في السبعينات. وبعد ان تغلب على المنافسة من خلال العولمة وتعميق الاستغلال في السوق العالمية في الثمانينات، استنفذ ايضا هذه السوق التي اصبحت تعيش وضعا من الجمود المستمر.

وقد فتحت احداث 11 ايلول مرحلة رابعة جديدة. فكانت هذه الاحداث نتيجة للسياسة الامريكية العالمية التي همّشت شعوب الدول النامية، ومنحت الاسلام المتطرف الفرصة لمهاجمة امريكا. ان انتخاب بوش وعلو نجم المحافظين الجدد هما اعتراف من رأس المال بان مرحلة العولمة انتهت. فالمنافسة الاقتصادية من جهة والجبروت الاقتصادي من جهة اخرى لم تكن كافية لاقناع العالم بان عليه الخضوع امام امريكا ومنح مصالحها الافضلية.

ونحن الآن في مرحلة الحرب التي تستخدم فيها امريكا الورقة العسكرية لتحقيق ما لم تتمكن منه في عهد كلينتون. فبعد ان ثبت ان الاجماع الواشنطوني لا يصلح، وترفضه اغلبية دول العالم، ومنها روسيا والارجنتين والبرازيل ودول آسيوية اخرى، لجأت امريكا لفرض رغبتها من خلال الرعب والصدمة. ولكن ليس بمقدور هذا النهج ان يخرج امريكا من الازمة، كما انه ليس النموذج للتطور الديموقراطي والنمو، بل هو محاولة مفضوحة للاستيلاء على العالم بالقوة، الامر الذي اثار حفيظة شعوب العالم وعمّق الازمة العالمية والامريكية.

اين يقف الاقتصاد الامريكي؟

بعد ثلاثة اعوام من ولاية بوش يمكن القول ان الاقتصاد الامريكي موجود في حالة من التذبذب، الامر الذي يثير قلق العالم ككل. فمن المعروف ان الاقتصاد الامريكي هو المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي، وكل دول العالم الغنية والفقيرة على السواء تصدّر للولايات المتحدة التي تتمتع بسوق ضخمة وكثرة سكانية تصل الى 300 مليون نسمة. ان الركود في امريكا ينعكس على الركود في العالم اجمع، اذ انه ليس هناك بديل عن السوق الامريكية.

امريكا اليوم تبث للعالم احساسا بعدم الاستقرار، وباستحالة ايجاد جواب واضح للازمة الاقتصادية التي تمر بها. فقد استخدمت حكومة بوش وسيلتين اساسيتين لانعاش الاقتصاد: الاولى تخفيض الضرائب لتشجيع الاستثمار، والثانية خفض نسبة الفائدة على الدولار لتسهيل الاقتراض وبالتالي تشجيع الاستثمار ايضا.

وقد استخدم بوش وصفة المحافظين الجدد التقليدية، وهي خفض الضرائب عن العشر الغني من المجتمع، وتعهد بان الجباية ستزداد ومعها الفائض في الميزانية، لتصل في غضون عشرة اعوام الى عشرة آلاف مليار دولار، وهو مبلغ ضخم حسب كل تقدير. الا ان شيئا من هذا لم يحدث. فالزيادة التي تمكن كلينتون من خلقها في فترة ازدهار البورصة، تحولت في عهد بوش الى عجز ضخم يصل الى 500 مليار دولار. ويشير هذا الى تكرار ما حدث في فترة ريغان، حين ادى تقليص الضرائب الى عجز كبير في الميزانية، بدل ان يزيد الجباية على المدى الطويل كما توقع المحافظون.

ولكن خلافا لبوش، كان في مقدور ريغان ان يموّل العجز في الميزانية بفض الانتعاش المعين الذي شهده الاقتصاد، والذي خلق ايضا 15 مليون مكان عمل جديد. اما العجز الحالي فلا يبشر بانتعاش حقيقي، وحتى لو اشارت المعطيات الى نمو معين في الاقتصاد، فان هذا النمو لا يأتي على اساس خلق اماكن عمل جديدة، وهي ظاهرة باتت تسمى "انتعاش دون تشغيل" (jobless recovery). وفي ظل عدم وجود انتعاش على اساس الانتاج، يبقى الدين الحكومي كبيرا دون افق لسداده، الامر الذي يهز الاقتصاد ويقلق المتتبعين لما يحدث في امريكا. فعلى المدى البعيد ستضطر الحكومة لرفع الضرائب من ناحية، ولاحداث تقليص اضافي في برامج الرفاه، الامر الذي سيكون له ثمن سياسي كبير.

الفرق الثاني بين ريغان وبوش، يكمن في نسبة الفائدة. ففي فترة ريغان كانت نسبة الفائدة مرتفعة جدا، تبعا لسياسة البنك الفيدرالي الذي كما اسلفنا كان يريد مكافحة التضخم المالي. اما اليوم فالنسبة متدنية جدا، ومع ذلك لا يؤدي هذا لانتعاش حقيقي في الاقتصاد. ولكن بالمقابل أدت نسبة الفائدة المتدنية الى تشجيع المضاربة في مجال العقارات. فلجأ الكثيرون للاقتراض من البنوك بهدف الاستثمار في العقارات، واستخدام هذه العقارات كعربون للحصول على المزيد من القروض. وتحول الاستثمار في هذا المجال الى فقاعة يتوقع في حالة انفجارها ان تؤدي الى انهيار في المجال المصرفي لعدم تمكنه من استرجاع هذه القروض.

ولا بد ايضا من الملاحظة انه بالاضافة للعجز في الميزانية، هناك عجز في الميزان التجاري. فامريكا تستورد اكثر مما تصدر، الامر الذي زاد الدين العام ليصل الى 500 مليار دولار. ويتم سداد هذا الدين من خلال قروض وكذلك من خلال قيام الحكومات والشركات الاجنبية المُدينة لامريكا، بشراء اوراق اعتماد تابعة للمالية الامريكية تحصل من خلالها على فائدة معينة الى حين سداد الدين الاصلي. ويبقى السؤال الاخطر، الى متى ستواصل الشركات والحكومات شراء الاوراق الامريكية، آخذين بالحسبان الوضع الاقتصادي الامريكي المتذبذب؟

وللتغلب على الكساد الاقتصادي لجأت الشركات الامريكية الى تصدير اماكن العمل الى البلاد التي تشغل الايدي العاملة الرخيصة. وقد تحولت الصين الى اهم منابع الايدي العاملة في مجال الصناعة، في حين باتت الهند مصدرا للتشغيل الرخيص في مجال التكنولوجيا والخدمات عبر الانترنت، وذلك بفضل جامعاتها الجيدة واتقان طلابها للانجليزية. يتبين اذن الشركات تمتعت ليس فقط بالفائدة المتدنية والاعفاء الضريبي، بل من نظام العولمة ككل، الذي اخضع العامل الصيني لشروط عمل قاهرة، في حين افقد العامل الامريكي مكان عمله. ويشير الامر الى اننا لسنا امام انتعاش، بل هي مساعٍ هدفها الحفاظ على ربحية الشركات على حساب رفاهية الطبقة العاملة.

ولا بد هنا من التطرق الى الحرب على العراق من الجانب الاقتصادي. فقد كلف احتلال العراق الخزانة الامريكية هذا العام 87 مليار دولار، هذا بالاضافة لتكلفة الحرب نفسها. ولكن نظرا للحالة الاقتصادية الصعبة، والعجز الضخم، تصبح هذه النفقات عبئا سياسيا على الرئيس بوش. فالكونغرس الامريكي، بجناحيه الجمهوري والديموقراطي، يشعر بعدم الرضا عن هذه السياسة، وخاصة انه لا افق لنهاية التورط الامريكي في العراق. فهذا البلد الخاضع لحرب داخلية طاحنة، لا يسمح باعادة الاعمار، والمستفيدون الوحيدون من الميزانيات الحكومية هي الشركات الامريكية وعلى رأسها "هليبرتون" التي تتقاضى مبالغ طائلة مقابل خدماتها في العراق.

اذا اخذنا بعين الاعتبار كل هذه المعطيات، يمكننا عندها ادراك اسباب الجمود الاقتصادي وانهيار الايديولوجية التي حكمت الولايات المتحدة عقدين من الزمن. ان الوسائل التي كانت بيد الحكومة لمعالجة الوضع الاقتصادي، وتحديدا في مجال الضرائب والتحكم بنسبة الفائدة ، فقدت جدواها، ولم يبق سوى انتظار مقدّرات السوق، والتأمل حسب تجارب الماضي ان يأتي المد بعد الكساد. ولكن تجارب الماضي ايضا تشير الى انه في ظروف استثنائية، قد تكون شبيهة بالوضع الراهن، قد لا يكون مخرج حقيقي للانتعاش.

الى اين تقودنا الازمة الحالية؟

لا يمكن التنبؤ بكيفية وتوقيت انتهاء المرحلة الراهنة، ولكن لا شك ان النظام الرأسمالي سيعمل على تخفيف حدة الازمة، من خلال مناورات سياسية واقتصادية. ومن الوارد ان يتم استبدال بوش بمرشح الحزب الديموقراطي في محاولة لتخفيف التوتر بين امريكا واوروبا، وطمأنة المستثمرين في امريكا والذين يموّلون العجز فيها. ومن الوارد ايضا انه مقابل تقارب من هذا النوع واخذ مصالح اوروبا بالاعتبار، ان توافق هذه الاخيرة على تقاسم عبء اعادة اعمار العراق مع امريكا.

ومن المحتمل ان يقوم المرشح الديموقراطي في حالة فوزه، باعادة رفع الضرائب وتقليص ميزانيات الدفاع، بهدف اجل اشفاء العجز في الميزانية. ومن شأن خطوات من هذا القبيل ان تمنح نوعا من الاستقرار، يقضي على المخاوف من التدهور الاقتصادي والوصول الى وضع يتضخم فيه الدين الخارجي والداخلي الامريكي بشكل لا يستطيع فيه الاقتصاد الامريكي تحمله. ان ما يريده رأس المال الامريكي هو كسب الوقت، وربما فترة استراحة من السياسة العنيفة التي ينتهجها بوش دون ان تعود بمردود حقيقي.

الا ان النظام الحالي المبني على اقتصاد الاحتكارات الكبرى التي تسيطر على السوق العالمية، لا يتماشى مع اسس الديموقراطية التي تأسس عليها الغرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ان ما تبحث عنه هذه الاحتكارات من خلال استثماراتها، هو الربح المضاعف (super profits)، وهذا يعني انه ليس في نيتها تقاسم مدخولها مع المجتمع. هذا التقاسم بالمدخول، من خلال ضرائب تعود للمجتمع من خلال ميزانيات الرفاه او اعطاء اجور مرتفعة للاجراء، هو الشرط لوجود طبقة وسطى تتمتع بمستوى معيشة جيد، ومعروض ان الطبقة الوسطى هي قاعدة اساسية في النظام الديمقراطي.

ان النظام الديموقراطي هو نوع من التعايش بين الطبقات، يمنح رأس المال امكانية النشاط الحر، ولكنه يلزمه بالتزامات اجماعية. وما رأيناه في السنوات الاخيرة ان هذا التعايش كان قائما في امريكا، ولكن الثمن كان زيادة الفقر في شتى انحاء العالم. لقد عاش المجتمع الامريكي على حساب العالم، وعندما جفت منابع الاستغلال العالمية في شرق آسيا وامريكا اللاتينية وشرق اوروبا، ضربت الازمة امريكا نفسها وابقتها دون جواب حقيقي حتى الآن.

ان ما يريده رأس المال للحفاظ على ارباحه الكبيرة، هو تقليص ميزانيات الرفاه، وعدم تحمل المسؤولية عن مصير المجتمع. ولكن التناقض ان نشاطه يستند الى نظام سياسي ديموقراطي، يتم فيه انتخاب الرئيس كل اربع سنوات، ويتم انتخاب نواب الكونغرس كل سنتين. واذا اراد الرئيس ان يُنتخب، فعليه توفير الحد الادنى من شبكة الامان الاجتماعي واماكن العمل للجمهور. ومن الصعب جدا التوفيق بين ما يريده رأس المال وبين ما يفرضه النظام الديموقراطي. فاذا اراد رأس المال الحرية الكاملة وعدم اعتبار رأي الجمهور، فالنتيجة ستكون فرض نظام استبدادي كذلك الموجود مثلا في الدول العربية، حيث لا تعددية حزبية ولا طبقة وسطى، الامر الذي يتيح للحكومة ان تفعل ما تشاء.

وقد تنشط الحكومات في امريكا وفي الكثير من دول الغرب في ظروف استثنائية، وهي تعرف ان الحدود بين الفشل الكامل والتقدم البطيء، دقيقة جدا. فبعد تقيلص الاجور وهبوط مستوى المعيشة، يضطر العامل الامريكي للعمل ساعات طويلة جدا للحفاظ على مستوى معيشته. وتشير المعطيات الاقتصادية الى ان هامش المناورة الاقتصادية للحكومة ليس كبيرا، وان الجمهور سيُسقِط كل مرشح قد يهدد بمواصلة ضرب مستوى معيشته. ومن هنا، يصبح انقاذ الاقتصاد مرهونا بارادة الشركات ونيتها الاستثمار، ولكن في حالة انكماش السوق، وعدم توفر الفرص لجني الارباح الطائلة المتوقعة من الاستثمارات، فان الشركات تبحث عن حلول سريعة بعيدا عن اي اعتبار اجتماعي.

واعتمادا على قوانين علمية، نؤكد ان الطرق الاقتصادية التي جربها النظام الرأسمالي، سواء دولة الرفاه او اقتصاد السوق الحرة، وصلت جميعها الى طريق مسدود. ان النظام الرأسمالي يعتمد على قطاع عام تديره المؤسسة السياسية، وقطاع خاص مستند الى رأس المال الخاص، وليس هناك اليوم جسم سياسي او خاص جديد يمكنه قيادة المجتمع على اسس جديدة. ان الاختراعات العلمية الحديثة في المجال التكنولوجي الالكتروني، التي كان من الممكن ان تكون مصدرا لثروة جديدة ومحركا اقتصاديا، قادت البورصة الى الانهيار. فرأس المال لم ير في هذه التكنولوجيا عاملا لتطور المجتمع، بل مجالا للمضاربة وجني الارباح السريعة فحسب.

من هنا فالخيارات ليست كثيرة، وما يميز النظام الديموقراطي اليوم هو الجمود الفكري، فالساسة والاقتصاديون يكررون نفس الادعاءات ويلعبون بالإحصائيات لاظهار تقدم ما في اداء الاقتصاد. ولكن الجمهور الواسع فقد ثقته بهؤلاء، وبامكانية النظام اشفاء الوضع الاجتماعي والاقتصادي. ان الهوة التي باتت تفصل بين النظام السياسي والجمهور هي نفس الهوة التي تفصل بين الغني والفقير، وهي واسعة جدا بدرجة لا يمكن الجسر عليها.

من أين ستبدأ الاشتراكية؟

ازمة النظام الديموقراطي وقلة الخيارات السياسية، تفتح المجال واسعا لطرح خيار سياسي اقتصادي واجتماعي بديل. ان النظام السياسي الرأسمالي موجود في تراجع مستمر، والفرق بين التيارات السياسية، الديموقراطية والجمهورية في امريكا، واليمينية واليسارية في اوروبا، باتت شبه معدومة. فقد تحول الاجماع "الواشنطوني" الى قالب تأتمر به كافة الدول الصناعية، ويضمن لرأس المال الاولوية على حساب العمل المأجور.

ان الفساد والكذب لم يعودا محصورين في الشركات الكبرى، بل تعداها للمؤسسة السياسية. وبالامكان ان نؤكد ان رأس المال الخاص استطاع رشوة النظام السياسي حتى افقده كل امكانية للرقابة. ان فشل الحكومة باداء دورها الذي انتخبت لاجله، يُبقي الجمهور فريسة سهلة لرأس المال الكبير دون جسم يحمي مصالحه، الامر الذي يفقد الجمهور ثقته بالنظام السياسي.

عمق الفجوة هذا بين الجمهور والحكومة، كشفته المظاهرات الضخمة في اوروبا ضد الحرب، والانقلاب على الحكم في اسبانيا. اما في الولايات المتحدة فاخذ موقع بوش بالتقهقر ازاء انكشاف اكاذيبه حول الحرب على العراق والارهاب، وعدم تمكنه من اشفاء الاقتصاد. ان الاقتصاد الذي يمنح الاغنياء امكانية مضاعفة ارباحهم، ولكنه يمنع الجمهور العريض من الحصول على مكان عمل ثابت، يفضح طبيعة النظام المنحاز تماما لصالح 1% من الشعب على حساب ال99% الباقين.

ومع هذا، لا تزال الاشتراكية خيارا نظريا، طالما كان هناك امل بقدرة النظام الرأسمالي على اشفاء نفسه. ان النظرة السائدة في صفوف الطبقتين العاملة والوسطى في الدول الصناعية، ان نواقص النظام الرأسمالي افضل من اي نظام بديل، لأنه يضمن مستوى عاليا في المعيشة والخدمات، وإمكانيات هائلة للتقدم الاجتماعي حسب قدرات الفرد. وبكلمات اخرى، ما دام النظام يستطيع ضمان مستوى تشغيل مقبول، لا تتعدى فيه البطالة 12% من القوى العاملة، ويضمن شبكة امان اجتماعية من خلال الخدمات الصحية المجانية والمساعدات المالية في شكل مخصصات ضمان دخل وبطالة، فلا سبب يدعو الطبقة العاملة والطبقة الوسطى للثورة.

وفي الحقيقة، ما دام النظام الرأسمالي قادرا على الحفاظ على اللعبة الديموقراطية، فلا "خوف" من حدوث انقلاب اشتراكي. ان اللعبة الديموقراطية محكومة من قبل اصحاب الشركات، ويدل على ذلك ان بوش سينفق 170 مليون دولار منحتها اياه الشركات الكبرى، لتمويل حملته الانتخابية. انها لعبة اصحاب الملايين، ولن تكون لاي حزب اشتراكي قوة اقتصادية موازية لمنافسة هذا الجبروت. ولا يلغي هذا امكانية وواجب الاحزاب العمالية الثورية خوض الحملة الانتخابية، مع الاخذ بالحسبان عدم وجود احتمالات للاستيلاء على الحكم من خلال هذه اللعبة المنحازة اصلا لصالح رأس المال.

اذاً، متى يتحول الخيار الاشتراكي الى خيار واقعي؟ عندما يتوقف النظام الرأسمالي عن نشاطه العادي: عندما تدخل السوق الرأسمالية الى وضع من التشنج، وتبدأ عملية سريعة من هبوط الاسعار بسبب ضعف القوة الشرائية، ويقوم فيها رأس المال بتجميد استثماراته حفاظا على رأسماله وخوفا من الخسارة، وتغلق المصانع ابوابها ويفقد ملايين العمال والموظفين اماكن عملهم. توفر هذه الظروف سيقود لسقوط النظام الديموقراطي، الذي سيفقد القدرة على توفير الحد الادنى من المستلزمات الحياتية، الامير الذي سيثير غليانا شعبيا كبيرا يمكنه ان يهدد السلطة الحاكمة.

تشير التجارب الماضية الى انه في حالة من هذا النوع، لجأت الرأسمالية الى تفعيل الدولة بشكلها الاستبدادي، وتنقل اليها ادارة الاقتصاد والمجتمع لصالحها، وهذا هو جوهر الفاشية. وفي نفس الوقت سعت الطبقة العاملة للاستيلاء على الحكم لإدارة الاقتصاد ولكن لصالح المجتمع ككل، وذلك من خلال مصادرة الملك الخاص، وتأميمه الذي يعني تحويله الى ملك عام ومن ثم تقسيم الدخل بشكل متساو بين كل افراد المجتمع. في هذه الحالة يصبح الصراع بين الطبقتين شكلا من اشكال الحرب الاهلية، وتدار المعركة باتجاه الحسم لصالح احد الطرفين، دون ان يكون الحل الوسط الديموقراطي خيارا واقعيا.

واذا كان بمقدور الولايات المتحدة انقاذ النظام الرأسمالي المنهار في اوروبا بنتيجة الحرب العالمية، فان المرحلة التاريخية الراهنة تفتقد قوة اقتصادية جديدة مختبئة في مكان ما خلف المحيط، يمكنها ان تنقذ الاقتصاد الامريكي المريض. لقد توحد العالم اجمع تحت قيادة ونفوذ القطب الامريكي الوحيد، وتبنى طريقته في الانتاج، الاستهلاك، نمط الحياة وحتى الثقافة. من هنا، فسقوط امريكا سيكون نهاية لحضارة كاملة، اذ انها باتت تشكل اهم وآخر معاقل النظام الرأسمالي.

لذلك، فمن المهم جدا متابعة ما يحدث في امريكا، ودراسة العبر من الازمة الاقتصادية الكبيرة التي ضربتها قبل اكثر من 70 عاما. ان الاشتراكية تصبح امرا واقعيا اذا عادت امريكا الى كارثة اقتصادية شبيهة. اننا نعرف اليوم ان الحكومة لم تملك الاساليب الملائمة لحل المشكلة، وانها لم تخرج من ازمتها الا من خلال احتلال اسواق العالم على خلفية الحرب العالمية الثانية. ولكن اليوم، استنفذت الحكومة الامريكية خبرتها الاقتصادية، ولم تُبقِ سوقا دون ان تحتلها، حتى وصلت الازمة الكونية الى شواطئها.

ان وضع الفوضى الذي تواجهه انحاء واسعة من العالمن شل النشاط الاقتصادي والسياسي في آن. والامثلة على ذلك موجودة في كل القارات، من هايتي الى اذربيجان، الى دول افريقيا وأمريكا اللاتينية، الامر الذي يدل على ان النظام الرأسمالي حرق طاقته، ولم تعد له قيمة في اغلبية دول العالم. اما في المراكز الصناعية، فلا يزال يناور بحثا عن حلول ضمن حدود معروفة لا جديد فيها، ولا يمكن ان تكون هناك وصفة جذرية للامراض التي استعرضناها في هذه الوثيقة. انها مسألة وقت لا يمكن تحديدها، ولكن المعطيات، التحاليل والعبر التاريخية التي اوردناها، تشير الى ان هذا النظام اصبح قديما وتحول الى عقبة رئيسية امام الوجود البشري.

ان التكنولوجيا الحديثة التي منحت النظام الرأسمالي الافضلية في منافسته للنظام الاشتراكي، اصبحت في نفس الوقت عاملا اساسيا في تدهور اقتصاد السوق الحرة نحو الهوية. ان التكنولوجيا والاختراعات العلمية اصبحت اداة بيد المستثمر لجني الارباح الطائلة، الامر الذي قاد لتعميق الفجوة بينه وبين سائر المجتمع. لقد تركت التكنولوجيا ملايين الناس خارج دائرة الانتاج، ونفس التكنولوجيا اصبحت مقيدة بسوق رأسمالية، لا يحكمها الا اعتبار الربح وليس حاجات المجتمع لها.

لا شك ان الظروف الموضوعية جاهزة لتطبيق الاشتراكية كنظام عالمي اممي، يمكنه توحيد العالم ليس على اساس دول نامية ومتطورة، بل في اطار شامل يلغي كل الفوارق بين الدول والفجوة بين الطبقات. هذه هي العولمة بمفهومها الديموقراطي الحقيقي، لانها تفترض التعاون بين شعوب العالم تحت سقف واحد. ولكن يبدو ان الوعي الجماهيري لضرورة قيام هذا النظام البديل لحماية الجنس البشري، لن يأتي الا من خلال معارك عنيفة وفي ظروف استثنائية داخل الدول الصناعية نفسها.

ان الفاشية ليست مجرد كابوس من الماضي، بل يمكنها ان تصبح واقعا في ظروف تاريخية استثنائية. وكذلك فالاشتراكية ليست وهما، بل ضرورة تاريخية حتمية، تصبح الحل العلمي الوحيد عندما يسقط النظام الديموقراطي ليس بسبب العمال بل بسبب قيام رأس المال بتحويل العالم كله الى رهينة.

اضف تعليقًا

ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.

الاسم

البريد الالكتروني

العنوان

موضوع التعقيب

تعليقك على الموضوع

Home نسخة للطباعة