كلمات للبحث

باكستان


العدد ٢١٢, تشرين ثان ٢٠٠٧

شؤون دولية

باكستان: رجل امريكا المريض

سامية ناصر خطيب

تخسر امريكا موقعا بعد آخر. فبعد تورطها في العراق، اهتز تحالفها مع باكستان. الرئيس مشرّف فقد ثقة شعبه من جهة، وتقلص دعم الامريكيين له بادعاء عجزه عن صد الحركات الاسلامية المتشددة.

تنشغل الولايات المتحدة، من ادارة وصحافة ومراقبين، بما يجري من احداث في باكستان - الدولة الاسلامية التي تملك قنبلة نووية، وتُعتبر الحليف الاول لامريكا في الحرب على الارهاب. الحال في باكستان ليس دعاية جيدة للرئيس الامريكي. فقد تحولت الى مشهد مخيف من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي الذي يهدد بتفتيت الدولة ودخولها في حروب اهلية على نمط العراق او جارتها افغانستان.
تخضع البلاد منذ 3 تشرين ثان الجاري الى حالة الطوارئ والاحكام العرفية. وقد تم تعليق العمل بالدستور، واقالة قضاة المحكمة العليا، بالاضافة لاعتقال الآلاف من المعارضة من القضاة والمحامين ونشطاء في مجال حقوق الانسان، وتعيين قضاة منحازين تماما للرئيس برويز مشرّف. يرافق حالة الطوارئ تعتيم اعلامي. فقد تم اغلاق غالبية قنوات التلفزيون الفضائية المستقلة والمحطات المسموعة، وطُرد مراسلو الصحف الاجنبية، الامر الذي ادى بصحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية لتوجيه انتقادات لكل من حكومة واشنطن ولندن لدعمهما المتواصل لمشرّف.
لجأ مشرف لفرض حالة الطوارئ بعد ان فقد السيطرة على شمال البلاد، وسيطرة الفصائل الباكستانية المتشددة على ارجاء شاسعة من المنطقة، اهمها اقليم سوات ومدن كبيرة عديدة. وتعتبر المنطقة ملجأ لتنظيم "القاعدة". ميلت بيردي، مسؤول سابق في مكتب وكالة الاستخبارات الامريكية في باكستان، صرّح بانه: "ليس لاسلام اباد، وبالتالي واشنطن، اية سيطرة عملية على مسار الاحداث في الولايات الشمالية التي تقطنها غالبية من اثنية الباشتون".
وقد وصل الامر بالحركات المتشددة في شمالي باكستان الى اطلاق اذاعة محلية في ولاية سوات، يشرف عليها مولانا فضل الله لنشر افكار المسلحين. من هذه الافكار الدعوة لشن "الجهاد" ضد الحكومة و"اسلمة" الاقليم على النمط الطالباني عن طريق تفجير عدد من مدارس البنات مثلا، مهاجمة محلات بيع افلام الفيديو واشرطة الكاسيت وتشويه تمثال حجري لبوذا يعود تاريخه الى اكثر من 1300 سنة.

اصل الازمة

تفجرت الازمة الحالية قبل ثمانية اشهر، بعد قرار مشرف تعليق مهمات القاضي افتخار محمد تشودري كرئيس للمحكمة العليا، وذلك بعد ان اتهمه القاضي باساءة استغلال سلطته. وتحول تشودري في اعقاب ذلك الى احد رموز وابطال المعارضة. اما مشرف، الرجل العسكري، فقد شدد قبضته واعتمد بشكل كامل على جيشه في التعامل مع الازمات، ومارس سياسة كم الافواه والاعتقالات، وامر الشرطة باطلاق الرصاص على المتظاهرين، بعد ان اصبحت المظاهرات في اسلام آباد مشهدا يوميا.
احداث المسجد الاحمر الشهيرة في العاصمة الباكستانية قبل شهرين، صبت الزيت على النار. فقد تحول المسجد في فترة "الجهاد" ضد الاتحاد السوفييتي الى بؤرة للفكر الاسلامي المتشدد، ولكنه انقلب على امريكا وراح يحض على الجهاد ضدها حتى بعد احداث 11 سبتمبر. وكان الجيش قد هاجم المسجد بعد ان تحصن فيه المئات من الذين تحدوا السلطة واسفرت المواجهة عن سقوط مئة قتيل.
هزّ الحدث الحركات الاسلامية في باكستان والعالم الاسلامي عموما، وذكّر بتفجير مرقدي الامامين في سامراء بالعراق العام الماضي. ورد تنظيم القاعدة بالثأر للقتلى، ودخلت باكستان في دوامة من الهجمات أوقعت اكثر من 270 قتيلا في غضون شهرين.
لكن جذور الازمة ترجع الى احداث 11 سبتمبر، التي تعتبر نقطة فاصلة في تاريخ باكستان وحكومة برويز مشرف. الرد الامريكي على الاحداث باعلان الحرب على افغانستان في 2001 واسقاط طالبان، الحركة التي وُلدت وترعرعت في دفيئة الاستخبارات الباكستانية ومدارسها الدينية، وضعت حكومة مشرف امام خيارات صعبة. فقد اتهمها الامريكان باحتضان الارهاب في افغانستان والمنطقة، وطالبها بتغيير حلفاء الامس وقمعهم. وقد كان لباكستان دور كبير في تدريس، تمويل وتدريب من سُمّوا "المجاهدين الافغان" عندما حاربوا الاتحاد السوفييتي، ثم باتوا يُسمّون بعدها "ارهابيين" عندما ضربوا الولايات المتحدة.
عندما بدأ العد التنازلي لحكومة مشرف التي غرقت في مشاكل سياسية وأمنية، قرر مشرف التخلي عن دعمه لطالبان والاصطفاف وراء القوات الامريكية، حفاظا على منصبه. لكن خياره لم يلق الدعم الشعبي. بعد ان خسر السيطرة على مناطق القبائل، واهمها قبائل البشتون المؤيدة لطالبان، خسر مشرف ايضا الاحزاب والحركات الدينية، ومنها الحزب الذي جاء منه "الرابطة الاسلامية" ذات النفوذ في الشارع الباكستاني.

فشل مساعي واشنطن

رغم كل مناوراته وقمعه، فشل مشرف في ضبط الساحة السياسية في باكستان. وادت خياراته السياسية وانحيازه للحملة العسكرية الامريكية في المنطقة، الى تبلور فرز سياسي عزل حكومته في الشارع الباكستاني. كما فشل مشرف في ضبط الامن، مما اضطره الى الدخول في صراع مسلح مع قوى المعارضة. وجاء قرار فرض حالة الطوارئ ليزيد من عزلة حكومته ويوسع دائرة المعارضة والاصطفاف ضده.
اتسعت دائرة المعارضة لتضم احزابا سياسية جرى تحجيم دورها سياسيا، كحزب "الشعب" الذي تقوده بينظير بوتو وحزب نواز شريف بالاضافة لقوى مدنية اخرى، شكلت جميعها جبهة معارضة قوية لنظام مشرف.
وبين الضغوط التي تمارس على الرئيس مشرف من الخارج والضغوط الداخلية التي تنفجر في طريقه، خاصة من جانب قوى التعصب الديني، تحول مشرف الدكتاتور الى مشكلة بالنسبة للادارة الامريكية. وتقدر المساعدات الامريكية لمشرف في تدعيم الجيش وتدريبه منذ 11 سبتمبر باكثر من 11 مليار دولار، تذهب في مهب الريح دون ان تقمع القاعدة، بل بالعكس، زادت من قوة التنظيم ومن الدعم الداخلي له، ولم تأت بانتصارات في ساحة المعركة.
حاولت واشنطن تدعيم جبهة مشرف السياسية من خلال احزاب معتدلة، لذا ضغطت على مشرف ان يتعاون مع بوتو التي عاشت في منفاها الاختياري في الامارات المتحدة منذ ثماني سنوات. وقد سهلت الادارة الامريكية الوصول الى صفقة بين بوتو ومشرف حول تقاسم السلطة. تضمن الصفقة لمشرف خمس سنوات اضافية في رئاسة باكستان، على ان يتخلى عن ازدواجية المناصب ويترك قيادة الجيش، لان الامر اعتبر مخالفا للدستور. بالمقابل، تتسلم بوتو زعيمة حزب الشعب رئاسة الحكومة وتسقط عنها كل تهم الفساد التي تعود لفترة حكمها رئيسة للوزراء.
اتفاق بوتو مع مشرف مس بشعبيتها، واثار استهجان الاعداء والاصدقاء. ولكن لم يتم للطرفين تنفيذ الاتفاق، فقبل عودتها بثلاثة ايام أعلن مشرف عن حالة الطوارئ، بينما اعلنت بوتو من جانبها عن قيادة مسيرة احتجاجية على قرار مشرف تخرج من مدينة لاهور مكان اقامتها، الى اسلام اباد. وردّ مشرف على ذلك بفرض الاقامة الجبرية عليها في بيتها. وبعد تدخل امريكي تم اطلاق سراح بوتو، وراحت تطالب باستقالته.
في ظل الاوضاع المتأزمة، وبضغط من الولايات المتحدة، اعلن مشرف عن اجراء الانتخابات العامة قبل التاسع من كانون اول 2008، لكن في ظل حالة الطوارئ، الامر الذي ترفضه الولايات المتحدة لكنها ترحب باجراء الانتخابات. وهددت بوتو بمقاطعة الانتخابات اذا تمت في ظل حالة الطوارئ مما يمس بنزاهة الانتخابات وحريتها.
بعد فشل الصفقة مع بوتو، لجأ مشرف، بضغط من امريكا، الى عقد صفقة بديلة مع نواز شريف المقيم في السعودية، والتقى لهذا الغرض بالملك السعودي. وكان شريف مقيما في منفاه بالسعودية بعد ان خلعه مشرف عن الحكم بانقلاب عسكري. عودة نواز شريف الى باكستان في 25 الشهر الجاري، تشير ان الضغوط الامريكية ويبدو السعودية ايضا التي مورست على مشرّف لاعادة غريمه، قد أثمرت عن نتيجة. غداة عودته اعلن شريف عن ترشيح نفسه للانتخابات المقررة في 8 كانون ثان (يناير) واعلن ان هدفه "هو تخليص باكستان من حكم مشرف العسكري".
الوضع المتفجر والضغط الامريكي المتزايد جعل مشرف يعلن تخليه عن منصبه كقائد للجيش مقابل احتفاظه بولاية ثانية. ومن المتوقع ان يؤدي القسم بوصفه رئيسا مدنيا يوم الخميس 29/11.

امريكا في موقف صعب

تحالف واشنطن - اسلام آباد بات تحالفا مهزوزا. فالحكومة التي فقدت ثقة الشعب لا تحظى بثقة الادراة الامريكية ايضا التي اتهمتها بانها لا تقوم بالدور الكافي لمنع تسلل طالبان الى حدود افغانستان. استطلاع للرأي كشف ان معظم الباكستانيين لا يؤيدون مواجهة الحكومة للاسلاميين في بلادهم، وعدد قليل منهم يؤيد الاستعانة بقوات اجنبية للقضاء على تنظيم القاعدة.
ردا على اعلان حالة الطوارئ اعلنت وزارة الخارجية الامريكية ان الرئيس الباكستاني يعرض مصالحها للخطر، اذ ان حالة الطوارئ تزيد من الغضب الشعبي ضده وضد حلفائه الامريكان. وأعلن شون مكروماك، الناطق باسم وزارة الخارجية، ان استثمار رئيس الولايات المتحدة في العلاقات مع باكستان هو استثمار في "الشعب وليس في مشرف".
فقدان مشرف لقاعدته الشعبية بسبب اصطفافه الى جانب الولايات المتحدة في "حربها على الارهاب"، لا تساعد الامريكيين في شيء، بل تصعب مهمتهم. بدل وعود الديمقراطية حولت امريكا باكستان الى نموذج للفوضى والعمليات الانتحارية، مما ادى لتنامي قوة القاعدة، وجعل باكستان اشبه بالعراق. لا احد يمكنه التكهن بما سيحدث ولكن الامر الواضح ان الولايات المتحدة لم تخسر الحرب على الارهاب فحسب، بل زادتها سعيرا، خاصة ان طالبان باتت تسيطر على اغلب افغانستان واخذت تمتد الى داخل الحدود في باكستان.

اضف تعليقًا

ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.

الاسم

البريد الالكتروني

العنوان

موضوع التعقيب

تعليقك على الموضوع

Home نسخة للطباعة