تاريخ النشر ٠٢/٠٩/٢٠٠٨

شؤون دولية

روسيا تسعى لإعادة مجد الامبراطورية

يعقوب بن افرات

الروس لا يتورعون عن اتباع كل الوسائل لتهديد جيرانهم بهدف السيطرة على مصادر الطاقة المتوفرة في محيطهم. ان ما هو مسموح لرأس المال الامريكي الذي يستخدم قوته العسكرية والنووية للسيطرة على موارد الطاقة العالمية، يصبح مسموحا ايضا لرأس المال الروسي الذي يتمتع هو الآخر بقدرات عسكرية ونووية لا تقل خطورة.

أثار الاعتراف الروسي الرسمي باستقلال أوسيتيا الجنوبية وابخازيا عن جورجيا، استهجان الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي ادانت القرار الروسي وحذّرت من عواقبه، واعتبرته خرقا لقرارات الامم المتحدة. جاء الاعتراف بعد حرب استمرت اياما قليلة دارت رحاها في جورجيا وانتهت بانتصار الروس الساحق على الجيش الجورجي. وفي اجواء التصريحات المحتدة ركّزت الاخبار والتقارير الصحافية على عودة الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة، وانقسم المحللون بين متفهّم للموقف الروسي ومنحاز للموقف الامريكي.

عودة الحرب الباردة

تكمن الخلفية لهذه الجولة من المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة، في القرار الامريكي توسيع حلف شمال الاطلسي (ناتو) ليشمل أوكرانيا وجورجيا الواقعة في منطقة القوقاز. جاء هذا بعد سنوات من دعم امريكا لمساعي الاطاحة بادوارد شفيرنادزه، الرئيس السابق لجورجيا ومن كان وزير خارجية الاتحاد السوفييتي ايام غورباشوف، وعملت على استبداله بميخائيل ساكاشفيلي. يعتبر ساكاشفيلي من اتباع الرئيس جورج بوش، وقد انيطت به مهمة استفزاز الروس وإدخال بلاده الى حلف الناتو.

تعتبر منطقة القوقاز ذات اهمية استراتيجية عليا، اذ تشكل ممرّا لانابيب الطاقة النفطية التي يتم استخراجها من بحر قزوين شرقا وتنقل الى مرفأ سيحان على السواحل التركية للبحر الابيض المتوسط غربا. وتكمن اهمية الممر في انه يتجنب الاراضي الروسية، مما يمنع الروس من الانفراد بالسيطرة على منطقة القزوين، ويحدّ من امكانيتهم ممارسة الضغط على اوروبا المتعطشة لهذه الطاقة.

ويأتي التدخل الروسي الاخير في جورجيا بهدف استعادة نفوذ روسيا في هذه المنطقة الحساسة، وبالتالي تقوية موقعها في الساحة العالمية عموما، وهو السبب الاكبر للصراع المحتدم اليوم. وما يزيد التوتر هو سعي الامريكان للبقاء القوة العظمى الوحيدة في العالم مما يشكل مصدرا خطيرا لاندلاع الحرب الباردة بينهم وبين الروس.

"الحرب الباردة" مصطلح يصف حقبة تاريخية كاملة خرج فيها العالم من الحرب العالمية الثانية، وقد انقسم الى كتلتين احداها بزعامة الاتحاد السوفييتي والثانية بزعامة الولايات المتحدة. وكان جوزيف ستالين وفرانكلين روزفيلت قد اتفقا عشية انتهاء الحرب، على تقسيم العالم الى مناطق نفوذ بينهما بعد ان يتغلبا في حربهما ضد المانيا النازية. ولكن سرعان ما توترت العلاقات بين القوتين العظميين بعد الحرب، وتبين ان النظام الاشتراكي هو الدّ اعداء النظام الرأسمالي. هكذا اندلعت حرب غير مباشرة بين المعسكرين، كان احدى تعبيراتها في كوريا التي انقسمت الى جنوبية رأسمالية وشمالية اشتراكية.

مع انتهاء الحرب الباردة مطلع التسعينات، اعلن النظام الرأسمالي انتصاره المطلق على الاشتراكية، كما اعلن عن "نهاية التاريخ" ونهاية الحروب. ولكن كما قال الناطق باسم رئيس الوزراء الروسي الحالي، فلاديمير بوتين، فان "حربا باردة بالمفهوم القديم للكلمة مستحيلة، إذ كانت تلك الحرب مبنية على صدام الأيديولوجيات". والحقيقة انه ليس هناك سبب لهذا النوع من الحرب وذلك لعدم وجود خلاف فكري بين البلدين. لقد تحولت روسيا الى دولة رأسمالية، ويسعى نظامها جاهدا لتفكيك ما تبقى من النظام الاقتصادي الاشتراكي، من خلال خصخصة الشركات، تشجيع الاستثمار الخاص وتفضيل الرأسماليين الكبار على حساب الطبقة العاملة.

يبقى السؤال، لماذا اذن يعود شبح الحرب الباردة من جديد؟ يكمن الجواب في طبيعة النظام الرأسمالي نفسه. فالحروب لم تكن ابدا اختراعا سوفييتيا، بل ان النظام الاشتراكي ينبذ الحروب والاستعمار وكل انواع الاستغلال. اما النظام الرأسمالي فمؤسس على المنافسة بين الدول او الشركات على الاستيلاء على الحصة الاكبر من السوق والقضاء على المنافسين.

ان الحربين العالميتين لم تندلعا بين دول اختلفت عقائديا، بل بين دول اتبعت انماطا مختلفة من النظام الرأسمالي نفسه. سبب الحرب العالمية الاولى كان المنافسة بين بريطانيا وفرنسا من جهة وبين ألمانيا من جهة اخرى على تقاسم النفوذ على المستعمرات. اما الحرب العالمية الثانية فنجمت عن ارادة المانيا النازية احتلال موقعها كقوة عالمية عظمى، وحازت على دعم رأس المال الالماني الكبير الذي لا يزال يسيطر على الاقتصاد حتى اليوم.

تبعات تفكيك الاتحاد السوفييتي

يذكّر صعود الفاشية في المانيا بعد الحرب العالمية الاولى، بما يحدث في روسيا منذ سيطرة فلاديمير بوتين وأنصاره على البلاد اواخر التسعينات. وكما خرجت المانيا من الحرب العالمية الاولى جريحة مذلولة وقد صودرت منها اراضي السوديت الغنية بالموارد مما ادى لنمو المشاعر القومية المتعصبة، كذلك حدث مع روسيا بعد الحرب الباردة. مشاعر العداء موجّهة اليوم تجاه الامريكان الذين سعوا لتفكيك وإضعاف روسيا منذ اوائل التسعينات، وذلك من خلال دعم استقلال الجمهوريات التي شكلت الاتحاد السوفييتي سابقا، كان من اهمها اوكرانيا.

بالمقابل سعت امريكا الى تفكيك حلف وارسو العسكري الذي ضم دول الاتحاد السوفييتي، بينما أبقت على حلف الناتو المضاد، بل سعت الى توسيعه ليشمل دول شرق اوروبا مثل هنغاريا، تشيكيا وبولندا التي انشقت عن الاتحاد السوفييتي.

ولم تكتف الولايات المتحدة بهذا، بل فرضت على روسيا الرئيس يلتسن الذي وافق على تفكيك الاتحاد السوفييتي مقابل استيلائه وجماعته على الموارد الروسية الغنية. هكذا، وبين عشية وضحاها، تحلل الاتحاد السوفييتي الكبير الذي نافس امريكا في كل الميادين، وتحول الى دولة متخلفة وصلت حد الافلاس المالي عام 1998.

شكّل هذا الافلاس نقطة تحول في السياسة الروسية الداخلية ثم في السياسة الخارجية. وقد جاء نظام بوتين على اساس قومي لاعادة المجد الامبراطوري لروسيا العظمى. لاجل هذا الغرض تم استخدام رموز الاتحاد السوفييتي، مثل الجيش والانتصار على المانيا النازية، كتراث تاريخي لكسب الشعبية والدعم للنظام.

الحروب التي اندلعت في البلقان بقيادة الامريكان في عام 1999، بهدف إتمام تفكيك يوغسلافيا وعزل صربيا - الدولة الاكبر في الاتحاد اليوغوسلافي - عن روسيا، أججت المشاعر القومية لدى الروس واخوانهم السلافيين. وجاء الاعتراف الامريكي والاوروبي باستقلال إقليم كوسوفو عن صربيا، رغم معارضة الروس، ليشكل حلقة اضافية في مسلسل التصعيد بين الامريكان والروس.

المبادرة الامريكية الاخيرة لتوسيع حلف الناتو ليشمل اوكرانيا وجورجيا، كان رسالة واضحة لموسكو بانها تشكل بالنسبة لها تهديدا لا بد من عزله والحذر منه. اما الروس فقد اعتبروا هذه الخطوة امرا لا يمكن السكوت عنه، فجاء الرد صارما ومتحديا لأمريكا.

معسكر جديد

ما سر هذا القلق الامريكي من روسيا اذا كانت لا تشكل تهديدا ايديولوجيا على نظامها؟ الواقع ان روسيا تملك موارد وثروة بشرية وتكنولوجية لا تقل عن تلك التي تملكها الولايات المتحدة، بل انها تتفوق عليها في مجالات معينة. بعد ان تحولت روسيا الى دولة رأسمالية تتمتع بسلاح نووي وقدرات اقتصادية، رفعت رأسها لتبحث من جديد عن مكان لها في العالم، وتحديدا في الاقليم الواسع الذي يمتد من اوروبا الشرقية الى آسيا الوسطى، والتي كانت منطقة نفوذ القيصرية الروسية لقرون خلت. من موقعها كدولة رأسمالية تحولت روسيا الى تهديد حقيقي على الهيمنة الامريكية على العالم.

النظام الروسي ليس رأسماليا فحسب، بل مهيمنًا على الموارد الاقتصادية، وتحديدا النفط والغاز، خدمةً لشريحة ضيقة من الاغنياء والمقربين من النظام الذين استفادوا من تفكيك القطاع العام الاشتراكي. وهؤلاء لا يتورعون عن اتباع كل الوسائل لتهديد جيرانهم بهدف السيطرة على مصادر الطاقة المتوفرة في محيطهم. ان ما هو مسموح لرأس المال الامريكي الذي يستخدم قوته العسكرية والنووية للسيطرة على موارد الطاقة العالمية، يصبح مسموحا ايضا لرأس المال الروسي الذي يتمتع هو الآخر بقدرات عسكرية ونووية لا تقل خطورة.

في حالة الاستقطاب الراهنة لا يصعب على موسكو ان تجد حلفاء لها معادين لأمريكا. وكان من هؤلاء رئيس فنزويلا هوغو تشافيز الذي صرّح اخيرا باستعداده لنشر الصواريخ الروسية على ارضه، كرد على نشر الصواريخ الامريكية في بولندا وتشيكيا. ايران ايضا تقف في الصف الروسي في النزاع الدائر اليوم في القوقاز. حتى النظام السوري يرى في النزاع العالمي فرصة لإعادة بناء التحالف الاستراتيجي مع روسيا، لاسترداد التوازن مع اسرائيل وتحسين شروط التفاوض معها.

غير ان هذا المعسكر الجديد ليس معسكرا مناهضا للرأسمالية والامبريالية. انه يذكّر بالمحاور التي تشكلت في الحربين العالميتين، وكان ابرزها تحالف العرب مع المانيا النازية في مواجهة الاستعمار البريطاني. ومن نافل القول ذكر العواقب الوخيمة لهذه السياسة التي لحقت بالعرب وبالقضية الفلسطينية.

الموقف من الحرب لا يكون باختيار دعم احد المعسكرين، بل بالمضي قدما في بناء بديل للنظام الرأسمالي. لا بد من التأكيد بان هذا النظام هو ذاته الذي قاد للحربين العالميتين وللحروب التي تلتهما، وهو اليوم يهدد البشرية بحرب واسعة النطاق بين روسيا والمعسكر الامريكي. ويزداد هذا الخطر مع تفاقم الازمة الاقتصادية والمنافسة المسعورة على الاسواق العالمية. في لحظات الازمات العالمية هذه يلغي النظام الرأسمالي قشرته الديموقراطية ويتخلى عن مصالح البشرية، وتصبح مصلحة رأس المال وارباحه فوق كل الاعتبارات والمبادئ.

ان الحرب الباردة المتجددة هي اشارة اخرى الى ان النظام الرأسمالي مريض. انها فرصة امام الطبقة العاملة في كل العالم لإعادة بناء نفسها على اساس برنامج ثوري اشتراكي جديد لإنقاذ العالم من الحرب القادمة.

اضف تعليقًا

ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.

الاسم

البريد الالكتروني

العنوان

موضوع التعقيب

تعليقك على الموضوع

Home نسخة للطباعة