كلمات للبحث

ادب, الاحتلال, قطاع غزة, رأي


تاريخ النشر ٢٦/٠٦/٢٠٠٨

شؤون اسرائيلية

محاضرة في تل ابيب حول كتاب عن الاحتلال

الجرأة على الإبصار

اسماء اغبارية-زحالقة

عقدت في ايار الاخير بتل ابيب ندوة حول صدور كتاب اريئلا ازولاي وعادي اوفير الاخير بعنوان "هذا النظام غير الاوحد". شارك في الندوة كل من اسماء اغبارية زحالقة، رائف زريق، عنات مطر، اورن يفتحئيل، اوريت كمير، سمدار بن نتان، حاييم داعوئيل لوسكي، عيدان تسفعوني. فيما يلي الكلمة التي القتها اغبارية زحالقة، مرشحة حزب دعم لرئاسة وعضوية بلدية تل ابيب-يافا.

FILE illustrations/sabar/08 june/asma_reli.jpg IS MISSING

لدى قراءة كتاب اريئلا ازولاي وعادي اوفير الاخير "النظام غير الاوحد"، تتوارد الى الاذهان روايتا الكاتب البرتغالي خوسيه سراماجو "العمى" و"الإبصار". كلما دخل الكتاب في تفاصيل الحياة التي يفرضها الاحتلال الاسرائيلي على المناطق الفلسطينية المحتلة، واضاء الحقيقة بجرأة نادرة تستحق التقدير، كلما اتضح عمق العتمة والعمى الذي تعيشه الاغلبية الساحقة من مواطني هذا النظام والمخضَعين له على حد سواء. بأسىً بالغ اقول ان العتمة صارت نصيبنا جميعا، عربا ويهودا، اسرائيليين وفلسطينيين، عتمة تتغذى من الكراهية ومن امل مدمر بالانتقام، عتمة تتنفس في اجواء التنازل النابع من اليأس او اللامبالاة، تنازل عن معرفة الحقيقة وعن النضال من اجل الحياة.

هذا الكتاب يحطم الوهم بان الاحتلال هو وضع مؤقت، ويكشف انه جزء حتمي من النظام الاسرائيلي. الاحتلال ليس مجرد "وضع" بل هو "جسم" حي يتحرك بفعل قوة سرمدية خاصة به، وكالانسان الآلي مبرمج "للدفاع عن نفسه" لادامة بقائه، وكل هدفه ان يمنع الحل النهائي الذي يأتي لينهي الاحتلال. هذا الحل النهائي حسب الكتاب، يتمثل اما بضم اسرائيل للمناطق المحتلة، وهو ما سيفرض على اسرائيل تطبيق القوانين المدنية على جميع السكان، وتحويلهم لمواطنين متساوي الحقوق؛ واما اندلاع حرب اقليمية شاملة. كلتا الحالتين غير واردتين بالنسبة للنظام الاسرائيلي، ولذا يفضل بقاء "الاحتلال" لتأجيل كلا الحلين.

بدقة بالغة يلخص الكتاب اربعين عاما من الاحتلال باشكاله المختلفة. من خلال فضح وهم سلام اوسلو واسطورة الانفصال عن غزة، يقدم المؤلفان مساهمة جريئة وشجاعة للنقاش في الاوساط الفكرية في اسرائيل والتي تتميز عادة اما باللامبالاة او بدعم اولمرت.

هجران غزة

الفصل الذي لفت انتباهي على نحو خاص كان الفصل بعنوان "هجران غزة". الخطة التي وعد شارون بانها ستحول غزة الى جحيم، حظيت في حينه بدعم احزاب اليسار الاسرائيلي والاحزاب العربية، بادعاء انها لا تستطيع معارضة انسحاب اسرائيلي من شبر ارض فلسطينية. وقد عبّر هذا الدعم عن عمى مطلق وضيق افق سياسي لدى اليسار، وتخليه قبل الاوان عن دوره كقائد للتغيير.

التخلي عن غزة بدأ قبل عملية الانفصال نفسها. بعد الاحتلال 67 سعت اسرائيل لضمان المسكن والعمل للاجئين، كيلا يطالبوا بالعودة ليافا وحيفا. كانت هذه الحيلة لتكريس لجوئهم في مخيمات غزة. هذا الوضع اختلف بعد توقيع اتفاقات اوسلو التي مهدت لتخلي اسرائيل عن مسؤوليتها المدنية عن الشعب المحتل، وفُرض على اهالي غزة طوق خانق، وتمنت اسرائيل لو "يموت الفلسطينيون هناك جميعهم"، كتعبير الكتاب.

كان مثيرا بشكل خاص وصف طبيعة الاحتلال في غزة بعد الانتفاضة الثانية، التي فيها تحول الفلسطيني من مجرد مخضَع للاحتلال الى "مهجور" او "متروك"، حول هذا جاء في الكتاب: "الفرد الفلسطيني الذي لم يعد يعتبر مواطنا ذا هوية يجب اخضاعه للاحتلال وتلبية احتياجاته في نفس الوقت، تحول الى "مطلوب"، اسم في قائمة الاغتيالات، نقطة على شاشة المراقبة او بقعة على جهاز في غرفة الطيار. النظام الاسرائيلي الذي تخلى عن كل واجباته تجاه المحتلين، لم يتنازل عن اهم رمز للسيادة: الصلاحية لسلب الحياة" (بالعبرية، ص.ص 295-296). منذ ذلك الوقت تحول "الموت" الى اللعبة المركزية، واختزل النضال في من يتحمل المسؤولية عن سلب الحياة: هل تصادرها اسرائيل ام يبادر اليها الاستشهاديون.

الانفصال كان قمة "هجران" غزة، والتخلي عن المسؤوليات المدنية دون التخلي عن السيادة على البحر والجو ولا عن صلاحية القتل والتجويع. احيانا استغرب الى اي مدى تختفي هذه الحقيقة الساطعة عن عيون "الاغلبية" في اسرائيل التي تفضل ان تصدق بانها خرجت من غزة ثم لا تفهم كيف مع هذا يواصل الفلسطينيون قصفها. كيف لا يرون الجندي يحرس بباب جهنم، واحيانا يقتحمه ليقطع على الناس مسيرة حياتهم.

في عملية الانفصال اختفى دور القانون، وأُفلت اللجام للعنف ليجرم على نحو غير مسبوق. فيما يلي اقتباس مؤثر آخر من الكتاب: "العنف هو ارهاب، لانه من البداية غير مرتبط باي قانون قائم، بل بقانون مستقبلي تتم صياغته بعد وقوع العملية. العنف يفشل مرة تلو الاخرى في التمييز بين المدنيين وبين المسلحين. هذا العنف هو ارهاب لانه لا ملجأ منه ولا مفر، لا مكان محصَّن منه ولا زمان يعتبر غير ملائم. عادة ليس هناك ابلاغ مسبق، عادة يأتي مفاجئًا، عادة يصيب اشخاصا غير متورطين بالعمليات العسكرية، وهذه الاصابة تكون محض الصدفة بالنسبة للضحية، ولكنها حتمية حسب منطق الاحتلال". تبنّى المؤلفان نفس الوصف ايضا في الحالة العكسية، عندما يأتي العنف من الحركات المسلحة الفلسطينية ضد المدنيين في اسرائيل.

كيف نكسر الجدار

اثناء القراءة في فصل "هجران غزة" تراءى امامي هجران من نوع آخر، يحدث الآن وهنا داخل اسرائيل وليس في "ساحتها الخلفية". هنا ايضا يسعى النظام للتخلص من المسؤولية عن مواطنيه، اليهود والعرب على حد سواء. وقد دخلت هذه العملية في مراحل متقدمة من هجران العاطلين عن العمل ضمن خطة ويسكونسين، على سبيل المثال. ويسعى النظام بكل ما اوتي من سلطة لخصخصة اجهزة الصحة والتعليم لدرجة انه اخرج المعلمين لموجة من المظاهرات والاحتجاجات لم تعرفها البلاد في تاريخها.

تعريف اسرائيل بانها "نظام غير اوحد" ملائم ايضا كعنوان لاتساع الفجوات الطبقية داخل المجتمع الاسرائيلي منذ اكثر من عشرين عاما. في معسكر "المواطنين اليهود" قام سور فصل جديد بين الاغنياء والفقراء. وهو سور مرن يتزحزح باستمرار ليشمل اقل عدد من الاغنياء ويحبس من الطرف الآخر اعدادا متزايدة من الفقراء - "المهجورين الجدد". عملية الهجران هذه، تشمل التخلي عن قيم التضامن ورفاهية المجتمع، التخلي عن المسؤولية عن المواطنين، عن تشغيلهم، عن حقهم بالسكن، بالتعليم بالصحة، التخلي عن "دولة اليهود" وخصخصتها لصالح "دولة الاغنياء" التي تديرها اليوم 20 عائلة اسرائيلية رأسمالية.

السور الطبقي الذي يفصل بين اليهود وبين بعضهم البعض، يتقاطع مع السور العنصري القومي الذي يفصل بين اليهود والعرب سواء كانوا مواطنين ام لا. وفي هذا تكمن فرصة كبيرة للتغيير. فخلافا للسور القومي الذي يعمي البصائر، لانه لاول وهلة يعطي امتيازات لمجموعة قومية- اليهود على حساب المجموعة الاخرى-العرب، يأتي السور الطبقي ليفتح العيون، لان نفس الامتيازات التي اعطيت لليهود بدأت تسلَب، وتحول الفقر الى نصيب اعداد متزايدة من المجتمع اليهودي ايضا وليس العربي فحسب.

الطريق الوحيدة لكسر السور الطبقي والقضاء على الفجوات الاجتماعية وتحقيق المساواة، تستوجب تضافر كل القوى التي حُبست وراء السور الطبقي، وهناك يتواجد الفلسطينيون، المصريون، المغربيون، السوريون وكل الشعوب العربية وشعوب العالم قاطبة. وهناك ايضا يتواجد قسم متزايد من الاسرائيليين اليهود.

انه نضال مشترك للعرب واليهود، ضروري لمواجهة الرأسمالية التي باتت عاجزة، مثلها مثل الاصولية الاسلامية، عن تلبية حاجات البشرية الاساسية، فهي بشكل منهجي تسلب الانسان حقوقه الاساسية بالحياة، بالديمقراطية وبالعيش الكريم. هذا ما أدركه عمال مصر، وهذا ما نسعى ونأمل ان يدركه ويتبناه العمال العرب واليهود وكل انصار السلام والمساواة.

هذه النهضة التي تتجلى في الاضرابات الواسعة النطاق وفعاليات التضامن غير المسبوقة في مصر، تمكّن اليوم اليسار المصري من النشاط في البيئة الملائمة له، وبالتالي التخلص من الدوران في فلك نظام مبارك او الاخوان المسلمين ومن الدعم الاعمى لحزب الله وحماس. انها فرصة غالية لليسار لبناء نفسه من جديد وتقديم نفسه كبديل مستقل يحترم اليسار ويعيد له مجده ودوره التاريخي. لقد بدأت المسيرة نحو الديمقراطية والشرق الاوسط الجديد، ليس ذلك الذي يريده بوش، بل الذي تتوق اليه الشعوب وفي طليعتها الطبقة العاملة.

للختام:

التحولات الكبيرة في المفاهيم تأتي في خضم حركات جماهيرية كبرى، هذه من شأنها ان تفتح ابصار الجماهير الغفيرة. واذا كانت الانتفاضة الاولى قد فتحت ابصار قوى يسارية عديدة، فالانتفاضة الثانية قد اعمتها. هناك حاجة لنهضة من نوع آخر تخرج عن معادلة "اما دعم النظام القومي واما دعم المعارضة الاسلامية"، نهضة تكون الطبقة العاملة اليسارية التقدمية طليعتها، واساسها التضامن بين عمال العالم وانصار السلام، بلا علاقة بانتماءاتهم القومية. من شأن حركة كهذه ان تفتح الابصار، وان تزرع الامل بمستقبل جديد وبمجتمع طبيعي، سليم وعقلاني.

والى ان تقوم هذه الحركة الجماهيرية، وكلي يقين انها قائمة واننا سنكون جزءا منها، هناك حاجة لمجهود كبير لفتح الانظار على مستوى الافراد، ليكون اولئك حاملي شعلة التغيير. في هذا الحال، يصبح كتاب اريئلا ازولاي وعادي اوفير مجهودا ضروريا لمواجهة عقل وقلب كل واحد منا، وعلى مشروعهما هذا اقدم لهما بالغ الشكر.

"هذا النظام غير الاوحد" (عبرية - משטר זה שאינו אחד، اصدار: رسلينغ)

اضف تعليقًا

ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.

الاسم

البريد الالكتروني

العنوان

موضوع التعقيب

تعليقك على الموضوع

Home نسخة للطباعة