امريكا وايران ترسمان خريطة الشرق الاوسط
اصبحت ايران دولة محورية في ضمان الاستقرار في الشرق الاوسط، وشريكة في رسم الخريطة بعد سقوط نظام صدام حسين. يبدو ان امريكا وايران توصلتا لاتفاق غير معلن حسبه تسمح الولايات المتحدة لايران بنفوذ سياسي في العراق، مقابل تخلي ايران عن دورها المعطِّل لانتخاب رئيس في لبنان والضغط على حماس لتهدئة الوضع في غزة.
لعل أبلغ تعبير عن المرحلة الجديدة التي يشهدها الشرق الاوسط، هي زيارة الرئيس الايراني، محمود احمدي نجاد، لبغداد المحتلة، للقاء الرئيس العراقي جلال طالباني وعناصر الحكومة المتعاونة مع الاحتلال الامريكي. تم اللقاء في المنطقة الخضراء المحصنة عسكريا، والخاضعة للحراسة الامريكية. تعتبر هذه اول زيارة لرئيس ايراني للعراق منذ الحرب التي اندلعت بين البلدين في الثمانينات، كما انها اول زيارة للعراق المحتل يقوم بها رئيس دولة، عدا الرئيس الامريكي جورج بوش الذي زار البلاد سرا.
احمدي نجاد يُبرز نفسه كواحد من السياسيين المناهضين لسياسات الادارة الامريكية الحالية. وقد بدا كطاووس مزهو بنفسه عندما طالب القوات الاجنبية بمغادرة العراق، غافلا عن انه لولا "الاجانب" ما كان لينجح في نشر نفوذه في العراق، ولا حتى زيارته. تزامنت الزيارة مع مباحثات اجراها الادميرال مايك مولن، رئيس هيئة الاركان المشتركة في القوات المسلحة الامريكية، بعدد من المسؤولين والقادة العراقيين والعسكريين الامريكيين في بغداد.
النصر الايراني
كان احد اهداف الحرب على العراق تعزيز تفوق امريكا العسكري على العالم من خلال تصفية الحساب مع نظام صدام حسين. ولكن من انتصر بالفعل كانت ايران التي جنت ثمار تحول العراق من بلد عربي الى بلد تحكمه حكومة شيعية موالية لها.
عندما ازاحت امريكا عدو ايران اللدود صدام حسين، تعاظمت قوة ايران بشكل هائل، حتى بات اي تقدم في العراق خاصة على الصعيد الامني، منوط بتعاون ايران او عدمه. وقد حاولت الولايات المتحدة تجنب التعاون مع ايران حتى أدركت انها بحاجة اليها لتثبيت الامن والاستقرار خاصة بسبب التكلفة الباهظة في المال والبشر التي تكبدها الامريكان في حرب العراق. النتيجة ان الولايات المتحدة امنت لايران حدودها مع العراق، ومنحتها اليد الطولى للتحكم بمصير العراق. ولا شك ان هذا فتح شهية ايران وعزز ثقتها بلعب دور اقليمي في لبنان وفلسطين ايضا.
أثمرت زيارة احمدي نجاد للعراق عن عقد سبع اتفاقيات تعاون مشترك بين البلدين. ويرى الكثيرون ان الزيارة جاءت لتثبيت النفوذ الايراني في العراق، فيما اعتبر آخرون ان ايران تلعب دورا سلبيا في العراق مستغلة اختلال التوازن في المنطقة، من هؤلاء اسامة النجيفي عضو القائمة العراقية في البرلمان الذي قال لصحيفة "الشرق الاوسط" (5 اذار): "ان ايران بدأت دورها في العراق منذ بدء الاحتلال الامريكي مستغلة انهيار البلاد، فضلا عن حصول فراغ كبير بدأت طهران بملئه عن طريق الميليشيات وتهريب السلاح".
كما وجّه مدير جهاز المخابرات العراقية محمد الشهواني، التهمة لايران بالتخطيط لاجهاض تجربة مجالس الصحوة، التي كان المفروض تشكيلها في اعقاب التفاهمات بين امريكا والسنة في العراق.
لا شك ان تغلغل النفوذ الايراني له علاقة وطيدة بالخسائر التي تتكبدها القوات الامريكية في العراق. الخبير الاقتصادي جوزيف ستيغلتز، الحاصل على جائزة نوبل، كتب في تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" (10 آذار) "ان حرب العراق اسهمت في بطء نمو الاقتصاد الامريكي وتداعياته التي تعد الاخطر منذ الانهيار الاقتصادي في امريكا عام 1929". وكشف ستيغلتز عن ان تكلفة الحرب على العراق تصل شهريا الى 12 مليار دولار، بالاضافة الى اربعة مليارات تنفق في الحرب على افغانستان.
في تعقيبه على هذه المعطيات، قال هاري ريد، رئيس الاغلبية في مجلس الشيوخ الامريكي، منتقدا الرئيس الامريكي، ان هذا المبلغ بالاضافة الى قطع الاستثمارات عن قطاع العمل والبنية التحتية، خلق عجزا يفوق ال400 مليار دولار وديونا وصلت الى 3 تريليون دولار (تريليون يساوي الف مليار)، والنتيجة هي اقتصادٌ خذل ملايين الامريكيين". (سي.ان.ان، 11 آذار)
يد ايران الطولى
المؤيدون لزيارة احمدي نجاد هم بالطبع الحكومة الشيعية العراقية الموالية لايران، وكذلك الاحزاب الشيعية. فيما عارضها المتضررون من زوال النظام السابق من السنة بالاضافة لشخصيات وطنية عراقية. رابطة الحقوقيين العراقيين طالبت في بيان خاص بتقديم الرئيس الايراني الى محكمة دولية لمحاكمته بتهمة ارتكابه مجازر جماعية ضد الشعب العراقي.
واتهم بيان الحقوقيين احمدي نجاد بسرقة النفط العراقي يوميا، ونهب ثروات العراق ونسف البنية التحتية لاقتصاد البلاد، تصدير المخدرات والادوية المنتهية صلاحيتها والشاي الفاسد للعراقيين، بالاضافة لمسؤوليتها السياسية عن العناصر الفاسدة التي احتلت المواقع الحكومية. كما حذّر من ان تؤدي التسهيلات للمنتجات والمستثمرين الايرانيين، الى تراجع كبير في الاقتصاد العراقي وتدمير المؤسسات الصناعية والزراعية، مما سيحول العراق الى مستهلك مرتبط بالاقتصاد الايراني.
اما في الجانب الامني فتتحمل ايران مسؤولية اساسية عن الاضطراب والاقتتال الداخلي في العراق، وبالذات في تمويل الجماعات الشيعية الدموية ك"جيش المهدي" و"فيلق بدر" لضرب السنة، وايضا في دعم مجموعات تنتمي للقاعدة لضرب الامريكان وجعل مهمتهم مستحيلة في العراق. وتُتّهم ايران بانها عمدت الى الغاء الوجود السني في المواقع الاساسية في العراق، من خلال التصفية العرقية التي اجبرت مليونين واربعمائة الف عراقي على النزوح عن الاحياء ذات اغلبية شيعية لمواقع اخرى ذات اغلبية سنية.
محرر الشؤون الدولية لصحيفة "التايمز" البريطانية كتب: "ان احمدي نجاد اعلن عن مجموعة مبادرات تقرب العراق الى ايران، منها القروض والاتفاقات الجمركية والمشاركات النفطية والمنطقة التجارية الحرة". واضاف المحرر انه "دون حاجة الى اطلاق رصاصة واحدة اصبحت ايران حليفا لا غنى عنه وشريكا تجاريا للعراق". ("مفكرة الاسلام"، 5 آذار)
بيان الحركة القومية والوطنية حول زيارة احمدي نجاد للعراق اتهم ايران بانها وراء قتل مئات الآلاف من العراقيين، اذ انها ارسلت عشرات الآلاف من قواتها لغزو العراق بملابس مدنية او بالوكالة من خلال تسليح الجيش والشرطة العراقية، وعملت على تأسيس ميليشيا لقتل ابناء السنة واغتيال رجال الدين منهم، العلماء، الاطباء، الاساتذة والاعلاميين.
كما اتهم البيان ايران بزرع الفتنة بين الشيعة انفسهم بدعم جناح عبد العزيز الحكيم على حساب مقتدى الصدر، واستغلال ظرف العراق للهيمنة على عدد من حقول النفط في مناطق مجنون والطيب وطرد العاملين العراقيين منها. وطالب البيان ايران بالكف عن التدخل في شؤونه وسحب قواتها، كما تطالب امريكا بسحب قواتها. وحسب البيان فان احمدي نجاد يريد انسحاب امريكا كي تبقى ايران تصول وتجول في العراق وتستحوذ على ارادة ومقدرات الشعب العراقي، او تشعل لهيب حرب اهلية تؤدي الى تقسيم العراق والتهام الجزء الاكبر منه. واختتم البيان بتوجيه اتهام قاس لايران بان نفوذها ما هو الا نوع من الاحتلال المباشر للعراق لا يقل خطورة عن الاحتلال الامريكي بل يفوقه في ممارساته اللاانسانية. (موقع "العراق للجميع"، 5 آذار)
تفاهم ايراني – امريكي
المفارقة انه ايران التي تذبح السنة في العراق، تدعمهم في فلسطين، لتبدو وكأنها الوحيدة التي تدعم المقاومة في العالم العربي. العراق يشهد تقاسما في الوظائف بين الاحتلال الامريكي وبين ايران، وهذا ما يفسر تبدل موقف امريكا الهجومي تجاه ايران الى موقف ديبلوماسي تفاوضي في محاولة لرسم خريطة المنطقة من جديد.
ثلاث جولات من المفاوضات الايرانية-الامريكية جرت للآن حول العراق. واذا كانت امريكا قد حاولت في بداية احتلالها للعراق الضغط على ايران في الموضوع النووي من خلال فرض العقوبات في مجلس الامن، الا انها ومع تواصل تورطها في المستنقع العراقي، مرّت علاقاتها مع ايران في اكثر من مفترق طرق. وقد كانت المحطة الاولى تقرير بيكر هاملتون الذي دعا لاشراك دول جوار العراق في حل الازمة الامنية العراقية وخاصة ايران. ثم جاء تقرير اجهزة الاستخبارات الامريكية الذي افاد بان ايران توقفت عن انتاج القنبلة النووية منذ عام 2003، ليوجه صفعة اخرى لسياسة الادارة الامريكية ويلجمها عن توجيه اي ضربة عسكرية لايران.
تحولت ايران الى دولة محورية في ضمان الاستقرار في الشرق الاوسط بعد سقوط نظام صدام حسين، وباتت تلعب دورا اساسيا في المنطقة كما نرى في لبنان وفلسطين. ويبدو ان كلا محوري النزاع توصلا لاتفاق غير معلن حسبه حسبه تسمح الولايات المتحدة لايران بنفوذ سياسي في العراق، مقابل تخلي ايران عن دورها المعطِّل لانتخاب رئيس في لبنان والضغط على حماس لتهدئة الوضع في غزة.
صحيفة "الحياة" اللندنية اشارت الى وجود حوار بين طهران والدول الغربية والولايات المتحدة، يجري بعيدا عن الاضواء. واشارت الصحيفة الى ان ايران وكذلك سورية تفضلان حاليا تجميد الازمة اللبنانية والتوصل لتهدئة بين حماس واسرائيل بوساطة مصرية، الى حين اتضاح نتائج الحوار. وتعوّل ايران وسورية على انتهاء ولاية بوش مطلع عام 2009 وامكانية انتخاب رئيس آخر يمكن التعاطي معه على نحو يضمن لهما مصالحهما الاقليمية.
العرب من اصدقاء امريكا ينظرون بحذر وعدم رضا ازاء تغلغل النفوذ الايراني في العراق، كما يخشون التقارب السوري الايراني وتدخل كلا البلدين في لبنان وفلسطين. وضع الانقسام في العالم العربي لا يدع مجالا لطرح مطلب موحد من امريكا بانهاء احتلالها للعراق، بالعكس صارت السعودية تفضل بقاء الامريكان كيلا تنفرد ايران بحكم العراق.
لا شك ان احمدي نجاد يصرح بخطاباته النارية التي تنادي الى محو الكيان الصهيوني، وذلك للتلاعب بمشاعر الشعوب العربية وكسب ودها، والتغطية بذلك على حقيقة تعاونه مع الاحتلال الامريكي في تمزيق العراق وسلب ثرواته واستقلاله وكرامته، الاحتلال الذي مزق العالم العربي برمّته. ان سياسة تمزيق العالم العربي التي تستفيد منها ايران، هي نفسها التي تستفيد منها اسرائيل والتي وجدت نفسها في محور واحد مع الانظمة العربية مصر، الاردن، والسعودية، وتستغل مكانتها الجديدة لضرب الشعبين الفلسطيني واللبناني وتثبيت تفوقها في المنطقة.
اضف تعليقًا
ادخل تعقيبك هنا.
طاقم تحرير المجلة سيقوم بقراءة تعقيبك ونشره في اسرع وقت.